إلى أن نلتقي – فرنسة المواد العلمية وتدهور التعليم في المغرب


أولاً، لا بد من التمييز بين أمرين: تدريس اللغة والتدريس باللغة؛
فتدريس اللغة، أيّ لغة، بدءاً من اللغة الوطنية الأم وانتهاءً حتى باللغات الميتة أمر مقبول بل ومطلوب وواجب، يفرضه أكثر من دافع:
فتدريس اللغة الوطنية واجب تمليه الوطنية والحضارة، خدمةً للهوية وتحصينا للذات، وربطا للحاضر بالماضي.
وتدريس اللغات الأجنبية أمر مطلوب وخاصة في وقتنا الحاضر الذي أصبح فيه العالم مسكنا صغيرا، ولا أقول قرية صغيرة، تتنقل المعلومة فيه من طرف الدنيا إلى طرفها الآخر في ثوان معدودة.
وأما التدريس بلغة معينة فهو قضية أخرى، وهو الأمر الذي يقع فيه التدليس – في بلدنا- على المتعلمين الأبرياء وعلى أولياء أمورهم بالذات، ثم على الرأي العام بصورة عامة، وخاصة تدريس العلوم، حينما يُزَيَّنُ لهم أن اللغة الوطنية لا يمكن أن تحمل عِلما ولا أن ترفع شأنا ولا أن تبني مستقبلا، فإما الإفلاس المبين، وإما التدريس باللغة الأجنبية!!.
يأتي التراجع عن تدريس المواد العلمية بالعربية ومنظومتنا التعليمية تعيش حالة من البؤس إن لم نقل حالة من الاحتضار وخاصة في الأماكن القروية النائية، حيث يستغيث هناك من يستغيث ولا من مجيب أو مغيث..
هناك أو في بعضٍ مِن هناك أطفال في عمر الزهور تحشر أجسامهم الصغيرة في قاعات تكاد تكون أصغر من أحجامهم، من المستوى الأول إلى الثالث إلى الرابع وربما إلى السادس، يأتيهم معلم واحد ليعلمهم كل شيء، ويربيهم على كل شيء…
هناك أو في بعضٍ من هناك أطفال في عمر الزهور يحلمون بأن يكونوا متعلمين قارئين، لكن عجلة الزمن تدور، ليجدوا أنفسهم خارج المدرسة بعد أن قضوا سنوات فيها، دون أن يتعلموا حتى كتابة جملة مفيدة.
هناك وهُنا يحشر التلاميذ في الأقسام العلمية بالأعداد الغفيرة، قد تفوق الخمسين أو تقارب هذا الرقم في القاعة الواحدة، حتى إن أحدهم إن كان في الخلف لا يكاد يسمع ما يقوله المدرس وربما لا يراه.
هناك وهُنا سمسرة للتلاميذ ولأولياء أمورهم بالساعات الإضافية، ينتج عنها غش في الامتحانات وقهر لكل من يخلص في دراسته وتعلُّمه.
هناك وهنا أناس لا يُسألون عما يفعلون ولا يحاسبون عما تكسبه أيديهم، ليبقى التلميذ المسكين هو الضحية.
هناك وهنا اعتداء على الأساتذة المربين وتهديد للإداريين، فقط لأنهم يؤدون واجبهم بإخلاص وأمانة.
ثم بعد ذلك يؤتى لنا بالعلاج الناجع، بالحل السحري لما تعيشه منظومتنا التعليمية: فرنسة المواد العلمية من جديد!!!
عجباً كل العجب!!!
وفضلا عن كل هذا فكل الدلائل الواقعية تدل على أن تدريس العلوم باللغة الوطنية هو أحد الأعمدة الأساسية للنهوض بمستوى التعليم؛
يكفي أن نذكر مثلا أنه على المستوى الوطني تُبِيّن الإحصاءات التي تتبعها بعض الباحثين أن تعريب العلوم في المدرسة المغربية كانت له نتائج إيجابية خاصة من حيث الهدر المدرسي الذي انخفضت نسبته بشكل ملموس بعد اعتماد التعريب.
وعلى المستوى الدولي أكد بعض الأساتذة الباحثين في الطب –حسب ما ورد في موقع الجمعية المغربية للتواصل الصحي- مكانة اللغة الوطنية في تدريس العلوم عند الدول المتقدمة في الطب، حيث إن الدول العشرين المتقدمة في الطب تُدرِّس العلوم بلغتها الوطنية، ولقد أظهرت نتائج البحث المبني على قواعد إحصائية علمية دقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية تحتل الصف الأول، وتركيا الصف 13 ثم بولونيا في الصف 20. وكل هذه الدول العشرين تُدَرِّسُ بلغتها الوطنية. وإذا استثنينا الولايات المتحدة وانجلترا، فجُلُّ الدول 18 الأوائل في العالم لا تُدرس العلوم بالإنجليزية وإنما بلغاتها الوطنية.
وبين ما هو وطني ودولي هناك طلبة مغاربة دَرَسوا أو يدْرُسُون في دول لم يكونوا يعرفون قبل التوجه إليها حتى أسماء بعضها فبالأحرى لغاتها، ومع ذلك درسوا هناك بعد أن تعلموا لغاتها في وقت وجيز، وهاهم بيننا أساتذة جامعيون وأطباء وصيادلة ومهندسون، فلم تكن اللغة حاجزا أمامهم لا قبل الذهاب ولا أثناءه ولا بعده.
إن العودة إلى فرنسة المواد العلمية في مؤسساتنا التعليمية ارتجال متسرع خطير لا يمكن أن يؤدي إلا إلى مزيد من تدهور التعليم، خاصة في المؤسسات العمومية، فضلا عن أنه تنكُّرٌ للهوية، وتراجعٌ عن مكتسبات وطنية ونتائج جيدة حققها تعريب العلوم في المدرسة المغربية.

د. عبد الرحيم الرحموني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>