ما يصلح النفس ، ويفيض الخير على الغير


هذا الحديث هو الثامن عشر من أحاديث الأربعين النووية رواه صحابيان جليلان هما “أبو ذر جندب بن جنادة” الصحابي الشهير الزاهد المعروف “وأبو عبد الرحمن معاذ بن جبل” أعلم الصحابة بالحلال والحرام ” ] عن رسول الله [، والحديث أصل عظيم جامع في باب الوصايا والإرشاد وقد أوصى فيه النبي [ بثلاث وصايا جامعة لكل خير هي:
تقوى الله في كل زمان ومكان، والإسراع بالتوبة من المعاصي عقب ارتكابها، والتخلق والتجمل بفضائل الأقوال والأعمال مع جميع الناس.
فما ذا تعني تقوى الله تعالى للمسلم والمسلمة في كل زمان ومكان؟
وما الذي يتعين فعله عند الوقوع في الخطيئة وارتكاب معصية؟
وما القيم والفضائل الأخلاقية التي يجب تمثلها في حياة المسلم في علاقته بالخالق والمخلوق؟
وأية علاقة تربط بين هذه الوصايا الثلاث؟
ماذا يستفاد من الحديث؟
أولا- في دلالة التقوى ومجالاتها:
التقوى كلمة جامعة لفعل الواجبات وترك المنهيات. هذه هي التقوى باختصار كبير !
أن تفعل ما أمرك الله تعالى به إخلاصا لله جل وعلا، واتِّباعا لرسول الله [ وأن تترك ما نهى الله عنه امتثالا لنهيه سبحانه وتعالى وتنزُّها عن محارم الله عز وجل؛ فتقوم بما أوجب الله عليك في أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين وهي الصلاة، فتأتي بها كاملة بشروطها وأركانها وواجباتها وتكملها بالمكملات، فمن أخلَّ بشيء من شروط الصلاة أو واجباتها أو أركانها فإنه لم يتَّقِ الله تعالى، بل نَقَصَ من تقواه بقدر ما ترك ما أمر الله به في صلاته.
وفي الزكاة تقوى الله تعالى وهي أن تُحصي جميع أموالك التي فيها الزكاة وتُخرج زكاتك طيبة بها نفسك من غير بُخلٍ ولا تقتيرٍ ولا تأخير، فمن لم يفعل فإنه لم يتَّقِ الله جل جلاله.
وفي الصيام تأتي بالصوم كما أُمرت، مجتنبا فيه اللغو والرفث والصَّخب والغيبة والنميمة، وغير ذلك مما ينقص الصوم ويُزيلُ روح الصوم ومعناه الحقيقي، وهو الصوم عما حرَّمَ الله عز وجل.
وهكذا بقية الواجبات تقوم بها طاعةً لله تبارك وتعالى، وامتثالا لأمره، وإخلاصا له، واتباعا لرسوله [، وكذلك في المنهيّات تترك ما نهى الله عنه، امتثالا لنهيه سبحانه حيث نهاك فانتهِ.
ثانيا- وصايا النبي [، دلالات ومقتضيات:
1 – الوصية الأولى:
وقوله [ :«اتق الله حيثما كنت» أي وامتثل ما أمرك به حيثما كنت، أينما وجدت، في كل مكان، فوق كل أرض، وتحت كل سماء، في الخلوة والجلوة، في الغيبة والحضور والشهود، يكون مستوى التقوى عندك واحدا، سواءً كنت عند الناس أو في خلوتك؛ لأن من الناس من يكون بين الناس ممتثلاً مستقيماً ثم إذا خلا بمحارم الله تعالى انتهكها، وقد جاء فيه الوعيد الشديد، عن ثوبان ] عن النبي [ أنه قال :«لأعلمن أقواماً من أمتي يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة ‏بيضاء، فيجعلها الله عز وجل هباء منثوراً، قال ثوبان: يا رسول الله صفهم لنا، جلهم ‏لنا، أن لا نكون منهم ونحن لا نعلم. قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ‏ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها» أخرجه ابن ماجه في سننه .
والمراد ‏بهؤلاء: من يبتعد عن المعصية ويتظاهر بالصلاح مراعاة للناس، وأمام أعينهم، وبمجرد ‏أن يخلو بنفسه ويغيب عن أعين الناس سرعان ما ينتهك حرمات الله، فهذا قد جعل ‏الله سبحانه أهون الناظرين إليه، فلم يراقب ربه، ولم يخش خالقه، كما راقب الناس ‏وخشيهم، أما من يجاهد لترك المعاصي، ولكن قد يضعف أحياناً من غير مداومة على ‏مواقعة المحرمات، ولا إصرار عليها، فيرجى ألا يكون داخلاً في ذلك.‏ وقد يكون الإنسان على حال في بلد، ثم إذا انتقل إلى بلد آخر كان على حال تختلف عن هذه الحال، وقد لوحظ هذا على كثير ممن يسافرون إلى البلدان الأجنبية سواءً كانت بلاد كفر، أو بلادا أهلها مسلمون تكثر فيها المعاصي والمنكرات،وقد تجد بعض من يسافر إلى هذه البلدان يتخفف من كثير من الأمور التي كان يلتزم بها في بلده، وهذا مما يستفاد من :«اتق الله حيثما كنت»، لأن المنظور إليه أولاً وآخراً في الفعل والترك هو الله -جل وعلا-، ولأن نظره إليك في بلدك وبين أهلك وعشيرتك كنظره إليك في أقصى البلدان؛ لا يخفى عليه شيء من أفعال العباد لا في الأرض ولا في السماء .
2 – الوصية الثانية:
وقوله [ : «وأتبع السيئة الحسنة تمحها». ما المراد بالحسنة في الحديث هنا ؟
فيها قولان:
- الأول: يراد بالحسنة هنا التوبة، وقد ورد هذا المعنى كثيرا في كتاب الله جل وعلا. وظاهر هذه النصوص تدل على أن من تاب إلى الله تعالى توبة نصوحاً واجتمعت شروط التوبة في حقه فإنه يقطع بقبول توبته كما يقطع بقبول إسلام الكافر عندما يعلنه بصدق وهذا قول جمهور العلماء وهو الصحيح.
- الثاني: يراد بالحسنة مطلق العمل الصالح وهو أعم من التوبة. وقد دلت على ذلك الآيات والأحاديث المتضافرة. والصحيح أن الحسنة في الحديث تشمل كلا القولين فهي تعم كل عمل صالح يكفر الخطايا والتوبة داخلة في ذلك.
أية علاقة بين الوصية الأولى والوصية الثانية؟
لما كان العبد قد يقع منه أحيانا تفريط في التقوى وتقصير في طاعة الله تعالى أو انتهاك ما حرم الله عز وجل لطبعه وغفلته وغلبة الشيطان عليه شرع الله له وأمره بفعل ما يمحو به هذه السيئات بفعل الحسنات كما قال تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } (هود :114)
وفي الصحيحين عن ابن مسعود ] أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ثم أتى النبي [ فذكر ذلك له فسكت النبي [ حتى نزلت هذه الآية فدعاه فقرأها عليه فقال رجل هذه له خاصة قال «بل للناس عامة».
وفي الصحيحين أيضا عن أبي هريرة ] عن النبي [ قال: «أذنب عبد ذنبا فقال ربي إني عملت ذنبا فاغفر لي فقال الله علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي ثم أذنب ذنبا آخر .. إلى أن قال في الرابعة فليعمل ما شاء». يعني ما دام على هذه الحال كلما أذنب استغفر والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا. وقد أخبر الله سبحانه أن المتقين قد تقع منهم أحيانا الكبائر وهي الفواحش، أوالصغائر وهي ظلم النفس لكنهم لا يصرون عليها بل يذكرون الله عز وجل عقب معصيتهم ويستغفرونه ويتوبون إليه وتوبتهم هي ترك الإصرار، وقد قال الله عز وجل في معرض الثناء عليهم: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (آل عمران: 135). يعني ذكروا عظمته وشدة بطشه وعذابه فاستغفروا من ذنوبهم ولم يستمروا على فعل المعصية. وهنا يرد سؤال هو:
ما هي القيم والفضائل الأخلاقية التي أوصى بها النبي [، والتي يجب تمثلها في حياة المسلم في علاقته بالخالق والمخلوق على حد سواء؟
3 – الوصية الثالثة:
الخلق الحسن من خصال التقوى ولا تتم التقوى إلا به وإنما أفرده النبي [ بالذكر للحاجة إلى بيانه، فإن كثيرا من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله تعالى دون حقوق عباده، لذلك يقصر كثير من الصالحين في حقوق الخلق أو يهملونها بالكلية لاشتغالهم بحقوق الله عز وجل، ولذا جمع النبي [ لمعاذ في وصيته بين حق الله سبحانه وحق عباده. وثمة وفرة من النصوص على فضل حسن الخلق والأمر به كما قال تعالى: { وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}. وقال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس}. وجماع حسن الخلق بذل الندى وكف الأذى كما قال رسول الله [: «البر حسن الخلق» رواه مسلم. وقال ابن المبارك: (هو بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى). وقال الشعبي: (حسن الخلق البذل والعطية والبشر الحسن).
وحسن الخلق أنواع كثيرة تعود إلى التحلي بقيم الإسلام التي جسدها [ في سلوكه ومعاملاته مع جميع الناس ومنها: التواضع والجود والحلم والأناة والرفق والوفاء والصدق والنصيحة وأداء الأمانة والستر والإصلاح والرحمة وبر الوالدين والصلة والشجاعة والإيثار والعفو والبشر وطيب الكلام والعدل.
ولحسن الخلق فوائد جمة ومزايا عظيمة: دخول الجنة وتثقيل ميزان العبد وكمال الإيمان وقرب المجلس من رسول الله [ يوم القيامة وبلوغ منزلة رفيعة في الدين وزيادة العمر وبسط الرزق وكشف الكرب واندفاع النقم وكسب محبة الخلق في الدنيا.
ثالثا- بعض ما يستفاد من الحديث:
1 ــ رأفة الله تعالى ورحمته بعباده إذ شرع لهم ما يكفر السيئات، فضلاً منه ونعمة. أما من السنة فحديث الباب، وأما من الكتاب {إن الحسنات يذهبن السيئات }.
2 ـــ فِعْلَ الحسنة بعد السيئة إنما هو مِن جنس تناوُلِ المريضِ الدواءَ إذا تناوَل ما يضرّه، فالمريض يبادر بتناوُل المصلِح المُذهِب للضرر ولا يتوانى، فكذٰلك العبد إذا أدخل على نفسه ما يضرّها في أعظم ما تملك -وهو الدِّين- ينبغي أن يبادر إلى ما يزيل ذٰلك الضارّ بفعل حسنةٍ ماحيةٍ لتلك الزلَّةِ.
3 ــ الحث على معاملة الناس بالخلق الحسن المناسب لكل مقام ، والخلق الحسن: هو بسط الوجه ، وبذل المعروف ، وكف الأذى.
4 ـــ أفاد الحديث قاعدة في الحسنات والسيئات: وهي أن كل حسنة إما أن ترفع درجة أو تذهب سيئة،وفي الحديث دعوة صريحة إلى أن تعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به.

ذ. محمد بنشنوف