أرسلت إلي أديبة هندية تقول:
قال أبو مدين:
ما لذة العيش إلا صحبة الفقرا
هم السلاطين والسادات والأمرا
هم بالتفضّل أولى وهْو شيمتهم
فلا تخف دركا منهم ولا ضررا
متى أراهم، وأنّى لي برؤيتهم
أو تسمع الأذن مني عنهم خبرا
من لي وأنّى لمثلي أن يزاحمهم
على موارد لم آلف بها كدرا
أحبّهم وأداريهم وأوثرهم
بمهجتي وخصوصا منهم نفرا
قوم كـــرام السجايا حيث ما جلـسوا
يبْقى المكان على آثارهم عطرا
يُهدي التصوّف من أخلاقهم طُرفاً
حسن التآلف منهم راقني نظرا
هم أهل ودّي وأحبـابي الذين همُ
ممن يجـــرّ ذيـول العــــزّ مفتخرا
ثم الصلاة على المختار سيّدنا
محمـد خير من أوفى ومن نـذرا
فقلت لها: أتدرين من هو أبو مدين هذا؟ إنه أبو مدين الغوث، وهو مغربي، ابن بلدي، وهو دفين تلمسان، وهي لا تبعد عن وجدة أزيد من ستين كلم. أمّا الرجال الذين ذكرهُم فلو وجدتهم أو عرفت مكانهم لهاجرت إليهم. ولكن هيهات هيهات! أكثر ما نرى اليوم من اقتصر تصوفه على الخرقة والدروشة، إلا من رحم ربّك، أجسام بلا أرواح، هم أهلُ الطرق، بصيغة الجمع، لا أهل الطريقة التي قال فيها الحق سبحانه: {وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا}.
فقالت: حقا؟ لأول مرة أسمع عن أبي مدين! إذن هو من المغرب، ومن أرضك، جميل حقا ما سمعت منه وعنه. صدق ما قال: «أنّى بمثلهم»، ليتني تركتُ حطام الدنيا وانضممت إلى زمرة المساكين الذين لا همّ لهم سوى صدق العبادة خلّصاً لله. هل التصوف كثير في المغرب؟ قرأت بأنّ الصوفية بدعة، وعندهم غلوّ في الدين وبدع، ولا تصحّ موالاتهم، ولكن أشعارهم رائعة… يبقى الشعر عشقي ونفسي وإن خانتني الكلمات).
هنالك قلت في نفسي: فلأقف ساعة مع أبي مدين الغوث، أستزيد من معرفتي بهذا العالم الرباني، والمجاهد والمرابط، المدافع عن بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، عسى أن أنتفع به وينتفع به غيري.
ولعل خير من كتب عن أبي مدين هو الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود(1960 ــ 1978)، في كتابه: (شيخ الشيوخ أبو مدين الغوث، حياته ومعراجه إلى الله).
ولد أبو مدين شعيب(520 ــ 594) بالأندلس، ثم رحل إلى المغرب فاستقر به زمنا طويلا، متعلما ثم معلما، قبل أن ينتقل إلى بجاية ليستقر بها خمسة عشر عاما، وقبل أن يتوجه إلى تلمسان حيث أدركته الوفاة.
وقد نقل ابن الزيات التادلي في (التشوف إلى رجال التصوف)، بسند متصل، عن محمد بن إبراهيم الأنصاري، أحد كبار تلاميذ أبي مدين، قال: «سمعت أبا مدين يحدث ببدء أمره فقال: كنت بالأندلس يتيما، فجعلني إخوتي راعيا لهم لمواشيهم، فإذا رأيت من يصلي أو يقرأ القرآن أعجبني… فذهبت إلى البحر وعبرت إلى طنجة، ثم ذهبت إلى سبتة… ثم ذهبت إلى مراكش، فقيل لي: إن رأيت أن تتفرغ لدينك فعليك بمدينة فاس. فتوجهت إليها فلزمت جامعها… إلى أن جلست إلى شيخ ثبت كلامه في قلبي، فسألت من هو، فقيل لي أبو الحسن بن حرزهم (حرفته العامة إلى حرازم)… ثم سمعت الناس يتحدثون عن كرامات أبي يعزى، فذهبت إليه في جماعة توجهت لزيارته».
ثم لقي الشيخ عبد القادر الجيلاني يوم حجه بعرفة، فقرأ عليه بالحرم، وكان أبو مدين يعده من أكبر مشايخه. وعندما عاد من الحج، قاصدا المغرب، مر ببجاية فاستقر بها، ومكث فيها خمس عشرة سنة، ومن هنا قيل عنه: «الإمام سيدي أبو مدين الغوث الأندلسي الفاسي البجائي».
لم يكن أبو مدين من الشيوخ الذين ينقطعون عن أمور المسلمين، بحجة الانقطاع عن الناس، فقد كان شديد العناية بها، وقطع أوقافا لخدمتهم. وعندما زار بيت المقدس، عاد فاستنفر أتباعه وتلاميذه للجهاد في سبيل الله، وتحرير المسجد الأقصى من الصليبيين، وكان ذلك زمن صلاح الدين الأيوبي، وكانوا في طليعة جيشه، فشاركوا في وقعة حطين الشهيرة عام 583، وكانوا مع الجيش الذي أرسله يعقوب المنصور لنصرة الأقصى، وقد أقطعهم صلاح الدين حيا، هو المعروف بحي المغاربة. وهو الحيّ الذي أمر موشي دايان بهدمه يوم سقوط القدس عام 1967.
د. الحسن الأمراني