لم يعد خافيا على أولي الألباب، بل وحتى على قطاع عريض من عامة الشعب ممن لا يعوزهم الوعي بالمخاطر المحدقة بسفينة المجتمع المغربي، أن رأس الحربة في تشكيل تلك المخاطر، هم فئة من الناس لا نتردد في نعتهم بالفتانين، لما نذروا أنفسهم له من زرع بذور الفتنة في أوساط المجتمع، وإشاعتها بشكل ممنهج ماكر، مستثمرين في ذلك ما أتيح لهم من وسائل البث والتأثير، التي تروج أقاويلهم على أوسع نطاق، وما أصبحوا يحظون به من دعم إيديولوجي من قوى تلبس لبوس العالمية والكونية، وتتدثر بعناوين وشعارات يضفى عليها طابع القداسة، مما يكاد يجعلها عندهم في مقام المسلمات، أو ما يسمى بالدوغمائيات التي لا تقبل عندهم نقاشا ولا مراجعة، ومن ثم فهي في منزلة الدين الذي يميز الناس بين مؤمن به، وكافر به بناء على معايير محددة. ويتصدر تلك العناوين والشعارات شعار حقوق الإنسان الذي اتخذ سلاحا فعالا أو سهما حادا يرشق به الفتانون كل من انتصب لدحض أقاويلهم وتسفيه دعاواهم.
إن من يتابع إيقاع حركة هؤلاء الفتانين وسلوكهم الفكري والسياسي خلال السنوات القليلة الماضية، على إثر ما أفرزه الربيع العربي من حراك سياسي اتخذ لون الرجوع إلى الأصول والمصالحة مع الذات، ومعانقة الهوية الإسلامية التي هي قوام الأمة، وأساس نسيجها الثقافي والاجتماعي والحضاري، يتبين له أنه قد اتسم بقدر زائد وغريب من الوقاحة والصفاقة، تجلى في موالاة الهجمات الممنهجة على أحكام الدين الإسلامي الثابتة وقيمه المقدسة، دون أدنى شعور بالحرج، المفروض أن تشعر به فئة لا يشكل أصحابها إلا نسبة ضئيلة قوامها بعض الفلول المترسبة من عهد إيديولوجي نكد بائد أصبح في ذمة التاريخ الذي حقه أن يدرس بحاسة الاستبصار والاعتبار. وأنى لهم أن يشعروا بالحرج، والظاهر أنهم يستشعرون في قرارة أنفسهم بشعور وهمي مفاده أنهم أهل الدار، وأن الشعب ينبغي أن ينصت إليهم إنصات الخاشع لمن ينطقون بالحكمة، وينقاد وراء مشروعهم الذي يعتبرونه طوق النجاة، فهم الطليعة، وهم القاطرة التي بدونها لا يتحرك للنهضة ولا للتنمية قطار.
إن هذا الوضع النفسي أو هذه الظاهرة النفسية تعتبر، بحق، سواء في السياق المغربي، أو في السياق العربي على حد سواء، أعقد الظواهر وأغربها، وأشدها شذوذا عن منطق الأشياء، لأن المفروض في أقلية «تغرد» خارج السرب، وتتمرد على السياق الثقافي والتاريخي للأمة أن يكون قصارى طموحها أن تترك وشأنها فيما تعتنقه من عقائد وما تحمله من أفكار، دون أن تتعدى حدودها بالمشاغبة على عقيدة الشعب واختياراته الحضارية، بله مناوشتها والاعتداء الصريح عليها، والمطالبة بخرمها وتفكيك نظامها.
إن آلة الفتانين لا تكاد تهدأ، وقد آلت على نفسها أن لا تترك قوى المجتمع البناءة تنصرف إلى مهامها الكبرى، لرأب الصدوع، ووضع أسس القوة لمواجهة التحديات، فهي لا تنتهي من إثارة زوبعة فتنة حتى تشرع في إثارة أخرى، وجديدها هذه الأيام يتمثل في العودة بنفس أكثر صلافة وعتوا إلى طرح قضية الإرث التي هي من محكمات الشرع الإسلامي طرحا استفزازيا، وذلك بالمطالبة بالمساواة في الإرث بين الرجل والمرأة، غير عابئين بأن في ذلك تطاولا على دين الشعب والدولة على حد سواء، واجتراء على رب العزة الذي يغار على دينه ولا يسلمه أبدا للسفهاء.
إن هؤلاء الفتانين لو توفرت لهم ذرة من عقل لاحترموا أنفسهم وأحجموا عن الخوض فيما ليس لهم به علم، ولتمسكوا ولو بنصيب قليل من حس المواطنة التي تفرض عليهم أن ينأوا عن إثارة القلاقل والاضطرابات في سفينة المجتمع. ومن مقتضيات ذلك الحس أن يحترموا الدستور الذي ينص على أن دين الدولة ومن ثم الشعب، هو الإسلام، وليس المواثيق الدولية ولا ما تفرضه من قيم تدعى كونية، إلا أن تكون هذه منسجمة مع الإسلام.
إن في مطالبة هؤلاء الفتانين بالتسوية بين الرجال والنساء في الميراث، اتهاما لله عز وجل بالجهل والظلم معا، تعالى الله عن زعمهم علوا كبيرا. لقد انتقل هؤلاء من الدفاع إلى الهجوم، عندما أمنوا مكر الله، وأمنوا وطأة المساءلة والحساب، وأطلق لهم العنان ليقولوا ما شاءوا، ولو فعل مفهوم السيادة، وروعي مطلب الحفاظ على توازن السفينة وأمنها لما أمعن هؤلاء في تفجير القنابل في السفينة بقصد نسفها.
إنك لتشعر بالغثيان وبالغضب معا وأنت تسمع لأحدهم في تصريح لأحد المواقع على هامش جمع لأنصار حزبه السياسيين، يطالب بالقضاء على جميع الطابوهات، فلا حرمة للدين الإسلامي ولا بما جاء به من تشريعات وأحكام.
وإنك لتجد هؤلاء الفتانين يتجردون من أي منطق وهم يناقشون قضية الإرث، فمن جملة ما ادعوه في هذا السياق، أن الهشاشة والفقر عند النساء سببه التمييز في الإرث بينهن وبين الرجال، وهذا مستوى من الإسفاف وضحالة التفكير شنيع، ولو أنهم رجعوا إلى وعيهم وثابوا إلى رشدهم لوبخوا أنفسهم أشد التوبيخ، لأن الإرث مورد لاغتناء النساء كما الرجال، وليس سببا للهشاشة والفقر، فسبحان من جعل ضحالة العقل تابعا لضحالة الإيمان.
وصدق الله القائل سبحانه: {ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون}
(المؤمنون:71) والقائل جل جلاله: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} (المائدة:50).