التراث والميراث والإرث ألفاظ مدارها على معنى ما يخلفه الميت من تركة توزع بين أفراد أسرته بالاستحقاق. ويطلق أيضا على تركة الأمة التي تخلفها للأجيال اللاحقة.
وإذا كان لكل أمة تركة ورثتها عن الأجداد السابقين؛ تركة علمية ودينية، تقنية وصناعية، تركة أخلاقية وفنية، تركة جغرافية وثقافية…، فإن أغلى ما ورثه المغاربة والمسلمون منذ زمن الرسول [ هو هذا الدين الذي أكمله رب العزة ورضيه لعباده خير ميراث لنيل السؤدد والعزة، تركة حفظها الأجداد وعضوا عليها بالنواجذ وسقوها بجهود أجسامهم ورعوها بصادق عزمهم وقوة أفهامهم، وأضافوا إليها ما وسعهم الجهد من الإغناء. لذا فتراث الأمة ليس كأي تراث آخر؛ إنه تراث أساسه الوحي الذي جعله الله تعالى هدى للناس كل الناس: {إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}(الأنعام:71).
وظلت الأمة جيلا بعد جيل ترعى العهود وتبذل أقصى الجهود في إقامة الدين في النفوس والوجود، وتدفع عنه شبهات ذوي الشكوك والجحود {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا لِّيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا}(الأحزاب: 23).
ومنذ ضعف الأمة في العصور المتأخرة توالت حملات تقطيع ميراثها الجغرافي، وتعطيل ميراثها الرباني وتشويه تراثها الثقافي، فحيل بين الأمة وبين تراثها العلمي والحضاري، وبدأ مخلصوها معركة استرداد التراث وبعث روحه من جديد، وإحلال روحه في أرواح الأبناء والأحفاد. وكانت معركة شرسة، فما خلص التراث كله للأمة ولا خلصت الأمة كلها لتراثها.. فوقعت معارك خلفت هوالك، وتدخلت فهوم جديدة لتحوير التراث بدل تحريره، ولتغييب الأمة عن تراثها وتغريبها. وانبرى كثير من الأخيار للرد على أصحاب الأهواء وصد الأعداء وفضح شبه السفهاء، فكان في ذلك من الخير ما كان إلا أن الأمة شغلت عن واجبات أعظم؛ واجبات البناء وتربية الأبناء، ورغم إثارة الغبار وشدة الأكدار المانعة من الإبصار بقيت الأمة قائمة والجهود متواصلة.
واليوم، وفي سياقات محلية ودولية محمومة بالعداء لثوابت الأمة الأصلية، تفتح قنوات الجدال عن ميراث المرأة والطعن في قواطع الدين وثوابت المسلمين بعد الإعراض عن ميراث الأمة وتغريب وجدان أبنائها وإبعاد أصولها عن توجيه حياتها تعليما وإعلاما وقضاء واقتصادا..، وهي معركة ليس لها من هدف إلا القضاء على ما بقي من الشريعة موصولا بالحياة، معركة لا تمس ميراث المرأة فقط وإنما كل ميراث الأمة، إنها معارك إلهاء الأمة عن التربية والبناء وجمع الكلمة على الحق والإخاء.
إن معركة إلغاء شرع الله جل وعلا في الميراث الأسري الأصغر إنما هي جزء من معركة إلغاء حق الأمة في ميراثها الحضاري الأكبر، وإلهائها عن معركتها الكبرى في تثبيت هويتها الأسرية والحضارية، وإبعاد للعلماء ورثة الأنبياء عن واجبهم المشروع في إقامة ميراث النبوة، وواجبهم في تنشئة الأبناء على الاعتزاز به والاستقامة عليه بقوة: “يا يحيى خذ الكتاب بقوة”…
فعلى مسؤولي الأمة الغيورين كل من موقعه وعلى قدر مسؤوليته اتخاذ تدابير شاملة وعاجلة للحفاظ على تراث الأمة حيا وإحلاله في الواقع إحلالا يصح به التفكير، ويستقيم التعبير، ويرشد به التدبير، وتندفع به الشرور، ولا يكون ذلك كذلك إلا من خلال خطوات إجرائية هي :
- إعادة الاعتبار للوحي قرآنا وسنة وعلومهما في التدريس والتعليم، وأن يأخذ حظه وحقه في المنظومة التربوية والإعلامية لبلادنا، فلا نجاة لهذه الأمة بل للبشرية جمعاء من هذه المهالك إلا بالعودة لدين الله تعالى تعلما وتخلقا، علما وعملا، إحكاما وتحكيما.
- إعادة الاعتبار لمقومات الهوية المغربية لغة ودينا وتراثا أصيلا، وسن قوانين وإجراءات تعزز الميراث التاريخي الإسلامي للمغرب في مختلف المجالات والقطاعات أفقيا وعموديا.
- توسيع نطاق التعليم الديني وتأهيل الحقل الديني بالمقومات الضرورية الكفيلة بتخريج العلماء الربانيين وتربية المواطنين الصالحين القادرين على تحمل الأمانة بحزم وعزم وقوة في العلم والأخلاق لرفع مكانة البلاد في كل الآفاق. وصدق الله العظيم حين قال جل شأنه شاهدا بالصدق والهيمنة لكتابه وواصفا لأحوال عباده ومراتبهم في التمسك بميراث كتابه: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}(فاطر 31 – 32).