لم يدر بخلدي أبدا أنني سأعيش تفاصيل مقدمات انهيار خلقي بأعز بقعة وأشرفها، بقعة أمضى فيها المصطفى [ أياما عصيبة، احتاج فيها إلى تلك الشحنة الربانية من الحكمة والرفق ليجعل الحجارة الجاهلية تشقق ويخرج منها الماء الزلال.
في البداية كنت ككل المسلمين الذين تلقوا خبر موت مئات الحجاج.. أضع أمام ناظري مجمل السيناريوهات التي تناقلتها وكالات أنباء ووضعت حولها استنتاجاتها بدءا بالمشروع الشيعي ومخططاته القديمة والجديدة في التمدد والمس بالتدبير السعودي لملف الحج ومرورا بالعدو الصهيوني ومكائده المغلفة بالاحتمالات الأكثر خداعا وتمويها لهدم المنظومة الإسلامية ووصولا إلى الإدارة السعودية و«اختلالات برنامج تنظيمها لضيوفها من الحجاج» كما جاء في قصاصات بعض الأنباء الخ .. لكن الأمور ستأخذ منحاها الأصلي المستند إلى القانون الرباني في تنزيل سنن العقوبة والجزاء حين يتم الزيغ عن الصراط السوي، وأنا أجلس إلى سيدة فاضلة عادت من الديار المقدسة بصدمة نفسية خلفتها في نفسها مجموعة من الأخلاقيات المنحرفة هناك.
حكت جليستي عن نساء بلباس خارجي هو لباس البيت الحميمي. حكت عن اللغو والتعري المكشوف لإحداهن لتغيير ملابسها وحين نبهتها جليستي قالت: «ياك حنا غير عيالات» .. حكت عن أثرة واستيلاء على الخيام وعنصرية مقيتة بين نساء ونساء وعن عنف لفظي بين الرجال وحوادث نشل وتحرش لرجال بنساء ونساء برجال .. تحدثت عن فوضى وأوساخ واستعراض عضلات أقوال وأفعال ..
وتذكرت ذلك الرجل الفاضل الذي جلست بالقرب منه حول مائدة غداء وحكى هو الأخر عن حاج يقول في معرض حديثه عن المناسك «كملت الزمر ديال عرفة» وفي نفس المائدة حكت صديقة عن حدث خصام عاينته هي بين نساء غاضبات حيث قالت إحداهن في غمرة حنقها لغريمتها «طلقوني عليها والله حتا نخسر عليها حجة».
حج بلا روح ومناسك بلا تقوى وشعائر بلا مقاصد ربانية. كانت جليستي في حالة من الانصعاق استعصى معها أن توافيني بالمزيد من الصور .. فهل كنت أحتاج إلى كل تلك المشاجب بدءا بالشيعة ومرورا بالمشجب الصهيوني التقليدي لأقبض على مفتاح فاجعة أحالت خير بقاع الأرض إلى مشرحة تنعق فيها الغربان وتكسر فيها الأنوف رائحة الجثث المتعفنة؟
وتذكرت قصة سبأ باليمن وأهلها من الموحدين وأرضها الوافرة الزروع والماء، وسدها العظيم وخيراتها الباسقة عن يمين وشمال {بلدة طيبة ورب غفور} حتى أن القطاف كان ثمارا دانية. وكان طريق أسفارهم يانعا بخيراتها، فلا يحتاجون إلى زاد، وكانوا يقومون برحلاتهم آمنين مطمئنين فأخذهم الغرور الشيطاني فاستبدلوا نعمة التوحيد بالشرك وغدوا عبدة للشمس، وبدأ ينتابهم الكفر بالنعمة، فسألوا الله أن يباعد بين أسفارهم وظلموا أنفسهم وجاء أمر الله جل وعلا فانفجر سد مأرب المنيع بفعل قوارض حقيرة أغرقتهم وشتتهم حتى إن العرب في وصف تمزقهم الأبيد صاغت مثلا غدا شهيرا فقالت «تفرقوا أيدي سبأ».
لقد كان جحود النعم سببا حاسما لسحب الخيرات {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}(الأنفال: 53)..
ومن الجحود الفادح، هذه الحالة من التنافر والتباغض التي أصابت قلوب المسلمين الجدد حتى أنها لم تمنعهم من استعراض فنون حذقهم فيها بأعز البقاع.. وقد غدا هذا النقار بين المسلمين مدعاة لتفكه أهل الفرجة في حماقاتنا حتى قالوا في حالنا «إذا اجتمع خمسة صينيين كتبوا حكمة، وإذا اجتمع خمسة يابانيين اخترعوا آلة، وإذا اجتمع خمسة أمريكيين أخرجوا فيلما، وإذا اجتمع خمسة فرنسيين كتبوا كتابا، وإذا اجتمع خمسة عرب شكلوا خمس طوائف، وخمسة أحزاب، وخمسة قوانين، ويعلن كل واحد فيهم أنه الرئيس ودون جلسة نقاش واحدة تبدأ التحالفات ثم الخصومات ثم الكره ثم الفتنة ثم التكفير ثم استيراد الأسلحة ثم تبدأ المعركة…»
ولأن الحديث يطول، وأمواتنا بإذن الله شهداء عند ربهم ولسنا في معرض التعميم ولا حق لنا في تزكية أو تهمة والله أعلم بمن اتقى، فقط ونحن نستقبل مناسبة جليلة سطر فيها المصطفى معالم التشكل الشعوري النقي الجديد والاستواء على العود من خلال الهجرة النبوية وما حملته من توجيهات حاسمة للانتقال إلى حالة الطهر والاستقامة، ينتابنا الشعور بالتقصير التام في تنزيل إرث رسول الله [، وندرك بقلق إلى أي حد ساءت أخلاقنا..
أين نحن من قول المصطفى [ (ما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا)، ونحن كالقنافذ كل واحد منا يشهر شوكه في وجه أخيه؟ ! وأين نحن من قول رسول الله [ للرجل الذي قال له: أوصني قال: (..لا تغضب..)؟! أين نحن من قول رسول الله [: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ومن يده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)؟!
ويطول الحديث في ذكر خيبات لا تدعونا بكل تأكيد للقنوط من رحمة الله ونحن نواكب حراك همم رسالية لرجال ونساء مخلصين تحفر في الصخر لتستقيم من جديد معالم الهجرة في الأنفس والآفاق، هجرة صاغ في ملامحها المغبشة المفكر جاسم سلطان كلمات عميقة ومتفائلة أدعوكم للتدبر فيها وكل سنة وأنتم بيقظة أنقى وصحو أرقى:
«الألم الموجود الآن فوق السطح، تحته تسير المياه التي تبحث عن إجابات وحلول جديدة».
ذة. فوزية حجبـي