أمام الدرك الذي آلت إليه الرواية العربية، في معظمها، حيث يغيب العقل والإيمان، وتحضر الشهوات، ويتوارى الواقع بكل آلامه وآماله، وتحضر الأوهام الزائفة، وكأن الكاتب العربي يعيش منسلخا عن أمته، وفي غيبوبة حتى عن وجوده الحضاري، أجد نفسي أفزع إلى بعض الروايات العالمية، ألوذ بها، بحثا عن الحق والجمال، إما بإعادة ما قرأت منها، وإما باكتشاف ما لم أقرأ. وقد مددت يدي إلى رائعة شارلز ديكنز: (قصة مدينتين)، فوجدت فيها ما يشبع تطلعاتي الفنية، وأشواقي الروحية. فهي تعالج واقعا شبيها بواقعنا العربي اليوم، من حيث المشاهد السوريالية المتمثلة في القتل الجماعي بدون سبب ظاهر، كما يحدث دائما في الثورات الدموية. فأحداث الرواية لها صلة ببعض الفرنسيين الذين لجأوا إلى بريطانيا إبان الثورة الفرنسية، ثم عادوا وقد نصبت المقصلة التي كانت تقطع الرؤوس بلا حساب. وقد ظن أحدهم أنه ناج من المقصلة، باعتباره نزيلا سابقا بسجن الباستيل الرهيب، إلا أن الأحداث تثبت ألا أحد ولا شيء يشفع لمن سبق عليه قلم المحاكم التي نصبها الحكام الجدد .. ولذلك كان تصوير بعض المشاهد كأنما هو ينقل لنا بعض ما يجري على الأرض العربية، من قتل عشوائي، الذي تنفذه إما الأنظمة الانقلابية، وإما الحكم الطائفي هنا وهناك، وإما بعض تنظيمات الخوارج الجدد، وكل ذلك يدع الحليم حيرانا. فلذك يقشعر بدن القارئ وهو يتابع أحداث الرواية، لأنه يحس وكأن ديكنز تحول إلى شاهد يروي لنا ما يشاهده من مآس في الواقع العربي. فنحن نقرأ مثلا: (وكانت قد مرت أربعة أيام.. وشاهد فيها دكتور مانيت من القتل وإراقة الدماء ما لم يره في حياته)، (أنشأوا له محاكمة سريعة في ساحة السجن…وما هي إلا دقائق وقطعوا رقبته وعلقوها على نصل رمح طويل وسط الهتافات التي تشق الصدور). (عقدت المحكمة صباحا للحكم في قضية أربعين فرنسيا «خائنا»… وعندما مرت ساعة كان قد حكم على عشرين منهم بالإعدام وسط هتافات الجماهير المؤيدة والملوحة بالأسلحة المختلفة في أياديها).
وكما يحدث دائما، يساق الأبرياء والأبطال الحقيقيون إلى الموت، والغوغاء تهتف مؤيدة أحكام الطغاة المنتصرين، ولكن إلى حين. ألم يسوقوا إلى المقصلة دانتون، وهو أحد أهم مهندسي الثورة الفرنسية؟
ليس هذا فقط هو ما يستوقف القارئ العربي في هذه الأعمال العالمية، ولكنه الهدف النبيل الذي ترمي إليه، وخلوها من مشاهد الفحش والبذاءة التي تملأ روايات عربية تحصد الجوائز، مما يدل ليس على فساد الأدب فحسب، بل على فساد الحياة الثقافية التي أفسدت الذوق الفني والنقدي على السواء، وأنبأت عن وجود «مافيا» ثقافية تخدم الاستبداد، وذلك بالترويج للنماذج الهابطة، واتخاذها مثلا أعلى للمجتمع.
إن القيم التي يدافع عنها ديكنز هي قيم الحق والعدالة ونصرة المستضعفين، وكشف سماسرة الثورة وأجرائها. ثم التبشير بأن العدل في نهاية المطاف منتصر، لأن هنالك عالما آخر، يقتص فيه من الظالمين للمظلومين، فالعدل في كل الأحوال منتصر، إن لم يكن في هذه الحياة الدنيا ففي الآخرة، وذلك ما تنتهي به الرواية، كما يكشف لنا هذا الحوار بين شخصين يقادان إلى المقصلة، وهما كارتون الذي ضحى بنفسه مفتديا شبيهه دارني، ممثلا أروع صور الفداء، وفتاة رقيقة الملامح جمعتها معه الأقدار في العربة التي نقلت المحكوم عليهم إلى المقصلة، حيث تقول الفتاة، وقد أنست به، رغم قتامة المشهد:
(ــ لماذا يفعلون بنا هذا يا مسيو شارل؟
ــ إنه قدرنا.
ــ لو كان قدري أن أموت فداء وطني لكنت راضية… ولكن بماذا سيستفيد وطني إذا مت الآن؟
وسالت دمعة على خد كارتون إشفاقا على الفتاة وهو يقول:
ــ إنّ الله يدخر لنا الحياة الأخرى.
وحانت منه التفاتة لها فنظرت إليه الفتاة قبل أن تشهق وتقول:
ــ أنت لست مسيو شارل.. من أنت؟ أنت تشبهه إلى حد كبير.
….. هل اخترت أن تحل مكانه؟ أنت شجاع يا مسيو… أنت شجاع وأريد أن أستمد منك تلك الشجاعة.
وزاد ضم يد الفتاة وهو يقول لها:
ــ لا تخافي… إنه أمر بسيط جدا .. كلها دقائق وسنكون في العالم الآخر حيث لا ظلم هناك .. سينتهي كل عذابك بعد دقائق ..
ـــ لم تقل لي ما اسمك.
ــ عندما نتقابل في العالم الآخر سأخبرك بكل شيء عني .. انتظري فقط بضع دقائق.
فتبسمت له وقالت وهي تهز رأسها: وهو كذلك.)
هذا اليقين الذي يسقي به كارتون قلب هذه الفتاة، وهو متوجه إلى الإعدام، مهم جدا في زرع قيم الصبر على المكاره، ومواجهة المصير بابتسامة، كابتسامة هذه الفتاة الصابرة، عندما استيقنت أن العدل لا بد متحقق في اليوم الآخر، وهو يوم أقرب مما يظن الظالمون. إن الحياة الدنيا تصبح بلا معنى إذا لم يكن هنالك إيمان باليوم الاخر. وستكون عبثية إذا كان الطغاة والمفسدون في الأرض سينعمون بما استباحوه، ثم لا يكون هناك جزاء أخروي يقتص منهم. وتلك الابتسامة التي علت محيا الفتاة تذكرنا بابتسامة الشهيد سيد قطب، وهو متوجه إلى حبل المشنقة، تلك الابتسامة التي وصفها بعض الشعراء فقال:
ما نسينا أنت قد علمتنا
بسمة المؤمن في وجه الردى
د. حسن الأمراني