تفسير القرآن بالقرآن أهميته وحجيته


1223تمهيد:
يكاد يتفق جل المهتمين بعلم التفسير على أن المصادر الأولية التي يجب على المفسر الرجوع إليها عند تفسيره لكتاب الله عز وجل تتمثل في: القرآن الكريم، والسنة النبوية، وأقوال الصحابة، وأقوال التابعين على خلاف في الصنف الأخير. وسميت هذه الأصول: «بالمراجع الأولية لئلا تدخل كتب التفسير؛ لأنها تعتبر مصادر»(1).
هكذا وبعد أن يحقق من يريد أن يفسر القرآن ما يتطلبه الإقدام على هذا العمل من مؤهلات علمية وفكرية، عليه أن يحدد المنهج الذي يحقق له هدفه من غير أن يؤدي به ذلك إلى تفريط أو شطط، وكان علماء السلف – رحمهم الله تعالى- قد تحدثوا عن أصح طرق التفسير(2)، وتسمى في بعض كتب العلوم القرآنية ب: (مصادر التفسير)(3) و(منابع التفسير)(4) و(مآخذ التفسير)(5)… وبينوا الخطوات التي يجب على المفسر أن يخطوها، والموقف الذي عليه أن يفقه من التراث التفسيري الذي أنتجته أجيال علماء الأمة السابقين. فقالوا:
إن أصح الطرق أن يفسر القرآن بالقرآن، فما أجمل في مكان فإنه قد فسر في موضع آخر، وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر. فإن أعياك ذلك – أي تفسير القرآن بالقرآن- فعليك بالسنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له… وحينئذ إذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة رجعت في ذلك إلى أقوال الصحابة، فإنهم أدرى بذلك؛ لما شاهدوه من القرائن، والأحوال التي اختصوا بها، ولما لهم من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح… وإذا لم تجد التفسير في القرآن ولا في السنة ولا وجدته عن الصحابة؛ فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين: كمجاهد بن جبر فإنه كان آية في التفسير… وكسعيد بن جبير…(6).
ونقتصر في هذا المقام على تفسير القرآن بالقرآن بياناً لأهميته وخصوصيته ، إبرازا لحجيته .
أهمية تفسير القرآن بالقرآن وخصوصية هذا المنهج:
القرآن الكريم هو أول من عني بالبيان والتفسير لنفسه، ولفت انتباه علماء الأمة إليه بوجه التنبيه والبيان، بل وحملهم أحيانا على ذلك حملا؛ «بأن علق وضوح المعنى وزوال الإبهام، وتمام المقصود من الكلام، بالجمع بين النصوص وحمل بعضها على بعض، دالا إياهم على مواضع التفصيل وتمام المقصود من الكلام، التي ينبغي الحمل عليها…»(7).
ففي القرآن آيات تحث على التدبر والتذكر والاعتبار، ومن ذلك قوله عز وجل: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب}(8). وقوله: {ثم إن علينا بيانه}(9). إلى غير ذلك من الآيات.
فالرجوع إلى القرآن الكريم المصدر الأول للتفسير هو «السبيل الأقوم لإزالة النزاع والاختلاف بين المسلمين عامة والعلماء خاصة؛ قال عز وجل: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}(10).
فالله تعالى إذن هو أول مبين لكتابه، لأنه الأعلم بكلامه ومراده. ومن ثم ألفينا عامة المفسرين على اختلاف مناهجهم التفسيرية، وتباين مذاهبهم الفكرية، يجعلون القرآن أصلا مقدما في تفاسيرهم وحجة دامغة لأقوالهم… وذلك استهداء بالمنهج النبوي الذي أصل هذا المسلك حين تفسيره لبعض الآيات…»(11).
وممن تحدث عن أهمية تفسير القرآن بالقرآن نجد الدكتور محسن عبد الحميد الذي يقول: «تفسير القرآن بالقرآن قاعدة جليلة، يصل المفسر إذا استعان به إلى المعنى الصحيح، لأن القرآن وحدة متكاملة مرتبطة، بعضه يتم البعض الآخر»(12) نجد كذلك الدكتور صبحي الصالح؛ الذي قال أثناء حديثه عن: (القرآن يفسر بعضه بعضا) «يردد المفسرون هذه العبارة كلما وجدوا أنفسهم أمام آية قرآنية تزداد دلالتها وضوحا بمقارنتها بآية أخرى. وإن لهم أن ينهجوا في تأويل القرآن هذا المنهج، لأن دلالة القرآن تمتاز بالدقة والإحاطة والشمول، فقلما تجد فيه عاما أو مطلقا أو مجملا ينبغي أن يخصص أو يقيد أو يفصل إلا تم له في موضع آخر ما ينبغي له من تخصيص أو تقييد أو تفصيل»(13). ولهذا قال ابن تيمية: «إن أصح الطرق في ذلك أن يفسر القرآن بالقرآن…»(14) وقال مساعد بن سليمان الطيارـ معلقا على قول ابن تيمية ـ: «وهذا حق لا مرية فيه…) خصوصا (إذا كان تفسير القرآن بالقرآن لا يتنازع فيه اثنان لوضوحه واستبانته»(15)، وقد سبق التمثيل لذلك.
«فالرجوع إلى القرآن إذن، والتماس تفسير الآيات من خلاله يمنع من الوقوع في الخطأ والزلل..»(16).
هذا المنهج الذي له خصوصيته التي تميزه عن غيره، فهو «يتعين… بالاستعانة بنص خارج عن الآية المشروحة إلا أنه نص من جنسها مجلوب من المدونة نفسها… (ف)شرح القرآن بالقرآن هو أولا وقبل كل شيء إقرار بأسلوب قرآني متميز يشعر به الخاص والعام، ويتمثل في أن المعنى الواحد يتناوله القرآن في مواضع مختلفة فكان اختلاف التعبير عاملا من أهم العوامل المساعدة على الشرح المساير للمقاصد القرآنية…»(17)(*).
وعن هذا المنهج أيضا تقول الباحثة سعاد كوريم: «وإذا علمنا أن منهج تفسير القرآن بالقرآن، هو طريقة في التفسير تعتمد القرآن مصدرا وحيدا لاستمداد المادة المفسرة، أمكن تحديد خصوصياته في ما يلي:
إن التعامل مع مصادر التفسير يبدأ عبر النظر في مصداقيتها، ومناقشة حجيتها، وإذا كانت تلك المصادر نصوصا، فلا بد من توثيق أسانيدها، وتحقيق متونها، ومعرفة أصحابها، وبيئاتهم، وثقافتهم، وتاريخ حياتهم، وذلك ما يعفينا منه القرآن، لكونه وحيا منزلا من الله تعالى»(18). محفوظا من أي تبديل أو تحريف.
«إن قضية التفسير تتضمن استبدال النص المفسر بالنص المفسر أثناء الفهم، ومغزى هذا الاستبدال يحتاج إلى وقفة قصيرة. فالنصان ينتميان عادة إلى مستويين لغويين مختلفين، وهذا يعني أنهما غير متساويين، مما يحول دون توازن طرفي المعادلة التفسيرية، غير أن المسافة بين الطرفين تضيق أو تكاد تنعدم، إذا انتمى النصان إلى نفس المصدر، وتم الربط بينهما على نحو منهجي، بعيد عن التعسف والاعتباطية، وهذا ما يكفله منهج تفسير القرآن بالقرآن.
إن منهج تفسير القرآن بالقرآن يختص بمجموعة من الأدوات الإجرائية التي يستقل بها عن غيره من مناهج التفسير، ومن ذلك اختصاصه -على سبيل المثال- باعتماد كل من الضابطين: السياقي، والموضوعي، في الجمع بين الآيات وبيان بعضها ببعض…»(19).
ولما كان القرآن الكريم هو منهج حياة الأمة، وكان موضوع تفسير القرآن بالقرآن هو بيان هذا الكتاب، كان التزام المنهج فيه ذا أهمية، لأنه يوصل إلى التفسير الحق.
حجية وحكم تفسير القرآن بالقرآن:
بعد أن خلصنا إلى أهمية وقيمة منهج تفسير القرآن بالقرآن تتبين لنا قوته وحجيته، وأنه واجب القبول، خصوصا إذا كان الذي فسر الآية بآية أخرى هو النبي [، أو أحد العلماء الذين تتبعوا الخطوات اللازمة لذلك.
يقول مساعد بن سليمان الطيار:«كلما كان تفسير القرآن بالقرآن صحيحا، فإنه يكون أبلغ التفاسير، ولذا: فإن ورود تفسير القرآن بالقرآن عن النبي [ أبلغ من وروده عن غيره، لأن ما صح مما ورد عن النبي محله القبول..»(20) وبعد تأكيده على أن أهم خطوات التفسير، أن يفسر القرآن بالقرآن، ثم بالسنة، قال الدكتور صلاح الخالدي : «وكل مفسر لم ينطلق من هاتين الخطوتين، ولم يلتزم بهاتين المرحلتين، يكون منهجه في التفسير مطعونا فيه، ويكون في تفسيره أخطاء منهجية.»(21) فالملتزم بهذا المنهج حسب العلامة حسين الذهبي «لا خلاف في قبوله، لأنه لا يتطرق إليه الضعف، ولا يجد الشك إليه سبيلا.»(22).
وقد أكدت الباحثة سعاد كوريم على أن «كل تفسير يستمد حجيته من معطيين اثنين؛ من المصدر المستقى منه، والجهة المسِئولة عنه. وأن مصدر تفسير القرآن بالقرآن هو القرآن نفسه لدلالة “بالقرآن” على ذلك أي أن هذا التفسير يستمد من القرآن وحده دون بقية المصادر الأخرى التي هي دونه في القوة فهو أقواها على الإطلاق، وبالتالي فهو حجة في التفسير… هذا من جهة المصدر. أما بالنسبة للجهة المسئولة عن التفسير- أي المفسر- وعلاقته بالحجية فليس دائما حجة، لأن تفسير القرآن بالقرآن ينسب إلى من فسر به، فمتى كان المفسر حجة، بأن توفرت فيه الشروط، واتبع المنهج الصحيح… قبل تفسيره، وإلا كان فيه نظر. »(23).
هكذا إذن، يتبين أنه متى كانت الآية توضح الآية الأخرى وتبينها، فإنه يصح أن تدخل في مسمى “تفسير القرآن بالقرآن”، وغير هذا لا يدخل فيه. وإن اتباع هذا المنهج في التفسير يوصل المفسر إلى المعنى المراد، إذا كان هذا المفسر حجة، واتبع المنهج الصحيح، وبالتالي يكون تفسيره مقبولا.
ذ. العربي عبد الجليل
————————-
1 – مجلة البيان، عدد : 95، السنة العاشرة، 1416هـ/1995م، مقال لمساعد بن سليمان الطيار، تحت عنوان: “مصادر التفسير، تفسير القرآن بالقرآن”، ص: 20.
2 – مقدمة في أصول التفسير، شيخ الإسلام تقي الدين أحمد عبد الحليم ابن تيمية الحراني، ص:57، مؤسسة الريان، الطبعة الثانية، 1422هـ/2002م.
3 – تعريف الدارسين بمناهج المفسرين، الخالدي، ص:201. التفسير بالمأثور جمع ودراسة نقدية من سورة النساء، إعداد أحمد بن عبد الله البغدادي، ص: 10، دار الكتب العلمية المصرية، الطبعة الأولى، 1419هـ/1998م.
4 – بحوث في تفسير القرآن الكريم، محمود رجبي، ترجمة حسين صافي، ص:229.
5 – البرهان في علوم القرآن، الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج:2، ص:175، دار المعرفة، الطبعة الثانية، بدون تاريخ.
6 – ينظر مقدمة في أصول التفسير من ص:57 إلى ص:66. والبرهان للزركشي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ج:2، ص:175.
7 – تفسير القرآن بالقرآن، دراسة تاريخية ونظرية، ج:1، ص: 13، أطروحة لنيل دكتوراه الدولة، إعداد محمد قجوي، إشراف الدكتور الشاهد البوشيخي، السنة الجامعية: 1421هـ/2000م، (وهي رسالة من جزأين، مرقونة بخزانة السلك الثالث، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ظهر المهراز- فاس- تحت رقم: 20/ 111).
8 – ص: 29
9 – القيامة: 19
10 – الشورى: 10
11 – قواعد الترجيح عند المفسرين القدامى، ص: 207، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا، إنجاز: محمد إكيج، تحت إشراف، الدكتور، أحمد أبو زيد (بحث مرقون بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، أكدال –الرباط- تحت رقم: ر.ج 212/ اكي).
12 – دراسات في أصول تفسير القرآن، محسن عبد الحميد، ص: 111، دار الثقافة، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 1404هـ/1984م.
13 – مباحث في علوم القرآن، الدكتور صبحي الصالح، ص: 299، دار العلم للملايين، الطبعة الرابعة عشرة، 1982م.
14 – مقدمة في أصول التفسير، لابن تيمية، ص: 57.
15 – شرح مقدمة في أصول التفسير، ص: 271.
16 – اتجاه أهل السنة في تفسير القرآن الكريم، فريد الجمالي، إشراف الدكتور أحمد أبو زيد، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا، السنة الجامعية:1417،1418هـ/ 1997،1996م (بحث مرقون في جزء واحد بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، أكدال – الرباط- تحت رقم: ر.ج 212/ جما).
17 – قضايا اللغة في كتب التفسير، المنهج، التأويل، الإعجاز، الدكتور عبد الهادي الجطلاوي، ص: 137، 138.دار محمد علي الجامعي، صفاقس، الطبعة الأولى، بدون تاريخ.
(*) هذا الكلام يتقارب مع ما قاله صلاح الخالدي في كتابه:”تعريف الدارسين بمناهج المفسرين”، ص:148، 149، 150.
18 – إسلامية المعرفة، السنة الثالثة عشر، العدد:49، 1428هـ/2007م، مقال للباحثة سعاد كوريم تحت عنوان:- تفسير القرآن بالقرآن، دراسة في المفهوم والمنهج- ص: 119.
19 – إسلامية المعرفة، السنة الثالثة عشر، العدد:49، 1428