الخطبة الأولى:
التربية والتعليم وظيفة الأنبياء والرسل، وهي معيار حضارة الشعوب وسبق الدول.. أول ما صدر للبشرية هو التعليم: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا…}(البقرة:31)، وأول معلمٍ في هذه الأمة هو محمد [ وأول مدرسةٍ في الإسلام (مدرسة دار الأرقم).. ومن ذلك المعلم وفي تلك المدرسة ومن أولئك التلاميذ صاغ العرب نواة حضارتهم، وحينها فقط سمع العالم يومئذ بالعرب وأدخلوهم ضمن حساباتهم.. إذ كانوا قبل ذلك على هامش الأحداث وفي ساقة الأمم.. والتاريخ يعيد نفسه، وما أشبه الليلة بالبارحة، ولم يرفع شأن هذه الأمة ولن ينهض بها إلا ما نهض بها في سابقها.
أيها المسلمون: لا يخفى على عاقلٍ فضل العلم المقرون بالتربية الصالحة؛ فبه يَعْبُد المسلم ربه على بصيرة، وبه يعامل الناس بالحسنى، وبه يسعى في مناكب الأرض يبتغي عند الله الرزق على الوجه المفيد للعمران.. وبالعلم تبنى الحضارات وتبلغ الأمجاد ويحسن البناء والنماء.. العلم يجلس صاحبه مجالس الملوك، وإذا اقترن بالإيمان فتلك رفعة الدنيا والآخرة {… يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ…}(المجادلة:11)..
أما المعلمون والمعلمات فإنهم يجلسون من كراسي التعليم على عروش ممالك رعاياها أولاد المسلمين؛ فهم الذين يصوغون الفكر ويفتقون الأذهان ويطلقون اللسان ويربون الجنان؛ حقهم الإعزاز والإكرام والإجلال وفائق الاحترام.. حقهم أن ينزلوا منازلهم العالية ويوفوا حقوقهم الكاملة، وأن يُعرف قدرهم وتبقى هيبتهم:
أَعلِمتَ أشرفَ أو أجلّ من الذي
يبني وينشىء أنفسًا وعقولا
الوصية لهم بعد الوصية بالتقوى والصدق والإخلاص، وأن يكونوا قدوةً صالحةً لمن يتأسى بهم.
أيها المعلمون: إن أولاد المسلمين أمانة الله تعالى في أعناقكم وودائع الأمة بين أيديكم.. إن المعلم لا يستطيع أن يربي تلاميذه على الفضائل إلا إذا كان فاضلًا، ولا يستطيع إصلاحهم إلا إذا كان في نفسه صالحًا لأنهم يأخذون عنه بالقدوة أكثر مما يأخذون عنه بالتلقين، وإن الناشئ الصغير مرهف الحس قوي الإدراك للمعارف والكمالات.. فإن زينتم لهم الصدق فكونوا صادقين، وإن حسنتم لهم الصبر فكونوا من الصابرين {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ إسْوَةٌ حَسَنَةٌ…}(الأحزاب:21).
إن الاستثمار في الإنسان هو الاستثمار الناجح الباقي المسلسل أجره ومنفعته في الدنيا وبعد الممات، وفي الحديث الصحيح: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث… “، وذكر منها: “أو علمٌ ينتفع به “رواه مسلم.
وإذا كانت هذه منزلة المعلم العالية فإن العناية باختيار المعلمين والمعلمات وانتقائهم والارتقاء بأدائهم وتطويرهم أمرٌ متحتمٌ لا لنجاح العمل التربوي فحسب وإنما لنجاح الأمة أيضا.. المعلم هو الركيزة الأساس وعليه تدور رحى التعليم؛ لا بد من استقراره نفسيًّا وماديًّا وإكرامه من عامة المجتمع.
أيها المسلمون.. أيها المربون: إن خير القلوب وأوعاها وأرجاها للخير ما لم يسند إليه الشر، وأول ما عني به الناصحون ورغب في أجره الراغبون إيصال الخير إلى قلوب أولاد المسلمين لكي يرسخ فيها، وتنبيههم إلى حدود الشريعة ومعالم الدين.. وهذه -والله- وظيفة الأنبياء، وقد أخبر النبي [ : «أن الله وملائكته وأهل السموات والأرض يصلون على معلم الناس الخير»(رواه الترمذي).. فهنيئا لمن أخلص نيته وأصلح العمل، وأحيا النفوس بالعلم والعمل والأمل.
عباد الله: لقد تألقت الحضارة الإسلامية قرونًا من الزمان محتفظةً بأصالتها ومبادئها متفننةً في علومها وتجاربها. والشريعة الإسلامية بكمالها وشمولها أمرت بتعليم جميع العلوم النافعة: من العلم بالتوحيد وأصول الدين والعلوم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحربية والتجريبية.. وغيرها من العلوم التي يكون بها قوام الأمة وصلاح الأفراد والمجتمعات، ويكون به الاستغناء عن غيرها وعدم تبعيتها لأحد، وفي مبادئنا الإسلامية: {… وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الاثْمِ وَالْعُدْوَانِ...}، لنحول هذا التوجيه الرباني إلى سياسة عملٍ ونهج ليسير على هداه رجال التربية والتعليم ورجال الإعلام والمال وكل أفراد المجتمع..،إنه العمل المشترك والعمل بروح الفريق الواحد.
أيها المسلمون.. أيها المربون: نحن مؤتمنون على صياغة الجيل وتوجيه المستقبل في تطويرٍ وتجديدٍ ومواكبةٍ للحضارة.. مع الأصالة والثبات المستمدين من شريعة الإسلام.. نعم الأصالة والتميز اللذان يستمدان منهجهما من الكتاب والسنة.. الهادفة إلى تعريف الناس برب العالمين والولاء لهذا الدين، وتنشئة المواطن الصالح المنتج الواعي السالم من الشطط ومسالك الانحراف في التفكيز والتعبير والتدبير..
إن مبادئ الإسلام الراسخة والمرنة كانت الانطلاقة الصحيحة للحضارة الإسلامية التي باركها الله على أهل الأرض، وما ضعفت إلا حين كانت المنطلقات غير شرعية في تنكرٍ للدين أو تحجرٍ لا يتحمله الإسلام.
عباد الله: كل أمة تنشئ أفرادها وتربيهم على ما تريد أن يكونوا عليه؛ فالتربية والتعليم في حقيقته هو صياغة المجتمع وصناعة الجيل وتأهيله وتوجيهه.. وكل الأمم والدول تدرك هذا الجانب وتسعى بكل ما تستطيع لترسيخ مبادئها وأهدافها عن طريق التربية والتعليم، وتعتبر ذلك من خصوصياتها وسماتها التي لا تساوَمُ عليها.
التربية والتعليم.. والمناهج الدراسية حقٌّ سياديٌّ وشأنٌ داخلي لا ترضى الدول بالتدخل فيه ولا تسلمه الأمم إلى غيرها، ومنه ندرك أن استيراد التربية من أمم أخرى بكل ما لها وما عليها خطيئةٌ كبيرةٌ وتبعيةٌ خطيرة تعني نشأة جيل مغيب عن تراثه وتاريخه.. مقطوع الصلة بدينه ومبادئه.. ممسوخا بلا هوية يسهل قياده واستعباده.
إن التربية ليست بضاعة تستورد.. إنها لباس يفصل على قامة الشعوب ومقوماتها ومبادئها وأهدافها التي يعيشون لها ويموتون في سبيلها.. وهذا لا يعني هدر الإفادة من تجارب الأمم؛ فالحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أولى بها، إلا أنه من الخلط والتضليل فرض علمنة بحجة التطوير أو إقصاء الدين من مواكبة العلم.. وفي قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء.}، دليل على أن العلوم النافعة هي المقربة من الله جل وعلا ولو كانت من علوم الدنيا؛ وذلك باصطباغها بصبغة الإيمان والتقرب بها إلى الله تعالى وخدمة دينه ونفع المسلمين وعمارة الأرض كما أراد سبحانه في توازنٍ وشمولٍ ووسطيةٍ واعتدال.. أما إذا تجرد التعليم وأهدافه من الإيمان فأضحت الوسائل والمقاصد ماديةً بحتةً فهو الوبال والشقاء.. وهذه الحضارة اليوم شاهدٌ حيٌّ على هذا النتاج حتى شقيت أممٌ بصناعاتها حين ذُهلت عن خالقها، وأصبح التسابق في وسائل الدمار لا في الإعمار وفقد الاستقرار، وأصبحت القوة معيارا بدلًا من الحق والعدل في السياسة والاقتصاد وغيرها من المجالات.. وما الفخر في بنايات تعانق السحاب بذي قيمة إذا كانت القيم مدفونةً تحت التراب! وما الربح بمفيد إذا شُغِل الناس بالشهوات واللهاث وراء المادة في غفلةٍ عن الآخرة: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}.
عباد الله: إن من الضرورة للمقررات الدراسية أن ترسِّخ معالم الهوية الإسلامية والثقافة الوطنية وجوانب التميز الحضاري لها ومكانتها العالمية والإسلامية دينيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وصناعيًّا مما يرسِّخ لدى المتلقي هويته الإسلامية وانتماءه الصحيح؛ فهو بحاجةٍ ماسةٍ أمام التحديات الفكرية والحضارية أن يكون أكثر وعيًا وأكثر مقاومةً للانحرافات التي تشكك في الثوابت الدينية والقيم النبيلة المتأصلة في مجتمعنا المسلم، ولئلا ينصهر الجيل ويذوب حتى يصبح مجرد رقمٍ من بين المخلوقات..
وإذا كان هذا الزمن زمن صراعٍ حضاريٍّ وعقائدي وضغوطاتٍ لعولمةِ الفكر والتعليم.. فإن من علامة إخلاص ووعي القائمين على التربية والتعليم مواجهة هذا التحدي وأن يكونوا على قدر المسؤولية في القيام بهذا الواجب العظيم لأجل مستقبلٍ مضيءٍ -بإذن الله- بالعلم والهدى والعطاء والبناء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم….
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: يقول المنظرون: إن التربية والتعليم عملية تكاملية، ولنا أن نتساءل عن دور الآباء والأمهات في هذا التكامل ودور وسائل الإعلام في التربية والتوجيه والنصح والتعليم وعن برامج المجتمع المسلم في هذا المشروع.. إن اضطرابًا وازدواجًا وحيرةً يعيشها الناشئ حين يعيش التناقض بين ما تربى عليه في المدرسة وما تفرزه وسائل الإعلام المقروء منها والمرئي.. إن المدرسة لتجاهد في إرساء قواعد التربية وبنائها، ومع الانفتاح المذهل في وسائل الإعلام والاتصال أصبحنا في حالٍ ينازعنا غيرنا في تربية أجيالنا.. خاصةً إذا كان واقع كثيرٍ من هذه الوسائل إثمه أكبر من نفعه.
إن ذلك يستدعي وقفةً من أصحاب القرار والغيورين والمعنيين بالتربية أن تتكاثف الجهود بالدراسات وإيجاد الحلول، ثم المبادرات والقرارات حمايةً للجيل وصيانةً للأمة.. إن لكل مجتمعٍ معالم يقف عند حدودها وشعائريكلف بتوقيرها.. حتى في الأقطار التي سادها الإلحاد تواطأ القوم على أمور يترابطون بها ويتلاقون على مطالبها وينظمون حياتهم بمنطقها.. ونحن المسلمون لا نبني حياتنا إلا على يقيننا بالله الواحد، ولا نرسم خطوط مجتمعنا وآفاق مستقبلنا إلا وفق هدايات الله العظيم كما بلغها رسوله الكريم.. ومن ثم فلا يقبل أبدًا إشاعة الفاحشة والإلحاد في حياة المجتمع المسلم، ولا أن يختل مظهر الإيمان في أرجاء الحياة العامة.. وليس استرضاء الله تعالى نافلة يزهد فيها الزاهدون أو يتخير فيها المترددون، ويستحيل أن ندع مواريث الحق التي تلقيناها ثم نرتقب خيرًا في عاجل أمرنا أو آجله.
ولكي نصل إلى مستوى عالٍ للتربية المنشودة يجب أن نصون الإيمان أولًا ونستبقي له قدسيته؛ فإن الإيمان بالله واليوم الآخر والطمأنينة المطلقة إلى ما جاء عن الله جل جلاله ورسوله [ أسسٌ مكينةٌ للتربية الكاملة، بل إن أنواع السلوك ترتبط بالإيمان كما ترتبط العربات بالقاطرة.. فإن لم يكن هنالك إيمان يربط حركات المرء وسكناته فإن المكان سيخلو لسائر الموجهات والمحركات الأخرى، وسينفتح المجال للشهوات والأهواء والرغبات والحاجات والغرائز والمنافسات، ويتهارج الناس لتحقيق ذلك من غير وازع ولا رادع..
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}
جَعَلَنَا اللهُ مِمَّنِ اسْتَمَعَ الْقَوْلَ فَاتَّبَعَ أَحْسَنَهُ، وَجَعَلَنَا مِمَّنْ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَمِلَ بِه وَدَعَا بِهِ وَإِلَيْه…
ذ. عبد الحميد الرازي