إن لله أوقاتا تحظى بشرف الاصطفاء والتفضيل، منها شهر رمضان، حيث أوجب الله فيه صيام أيام معدودات. والصيام عبادة كسائر العبادات لكنه يفضلها ويتميز عنها؛ فقد اختصه الله بشرف الانتساب إليه سبحانه، يقول النبي [ : «قال الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به»(البخاري ومسلم)، وفي رواية : «كل عمل ابن آدم يضاعف؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصوم، فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي….»(مسلم).
إن العبادات الأخرى من صلاة وزكاة وحج قد يداخلها رياء أو تقليد، لكن عبادة الصيام عمل السر يطلع الله سبحانه وحده على سريرة الصيام فيه، ولذلك أثبت الحق سبحانه الجزاء العظيم على الصيام الذي لا يعلم مداه إلا هو سبحانه. إن هذا الفضل الذي خص الله به الصيام سببه أمران:
1 – أن الصيام سر وعمل باطني لا يراه الخلق ولا يدخله رياء، ومن رحمة الله بالصائم أن جعل الصوم بينه وبين عبده الصائم، لأن في ذلك سترا لما يخفى في نفس الصائم، وبالتالي فإن الله جل وعلا لا يرضى لأحد من الخلق أن يعلم صحته أو فساده، ومن ثم استأثر الله وحده بمعرفة حقيقة هذا الصيام ليجزي صاحبه على قدر إخلاصه في صيامه.
2 – أن الصيام أداة لقهر الشهوات، ومصدر الشهوات الأكل والشرب، وما دامت الشهوات تهيج فإن الشياطين تجد فيها مرعى خصبا، وكلما تركت الشهوات ضاقت مسالك الشياطين. ما من عمل إلا وله جزاء إلا الصوم، فلا تعلم نفس حجم جزائه ولا قدر عدده إلا ربنا عز وجل الذي قال في محكم تنزيله: {فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون}(السجدة17) قال بعض المفسرين: كان عملهم الصيام. وحين يكون الجزاء على الصيام من الرحمن الرحيم، لا يترك الله عبده الصائم وحيدا يعاني مرارة الجوع والعطش، ويتحمل الصبر على الشهوات، لا يَكِلُ الصائمَ إلى نفسه، بل يؤيده بمؤيدات من عنده، ويشحن الصائم بشحنات متدفقة، تزيد الصائم إيمانا ويقينا بعظم الجزاء، وإن لله في ذلك مبشرات وحوافز تقوي فيه العزيمة، وتنمي فيه الهمة، فإذا ما تفاعل الصائم مع هذه المبشرات والحوافز، تضاعف جزاء الصيام، ومن هذه الحوافز الإيمانية، إشارات رقيقة ،ونداءات بليغة، تضمنتها أحاديث نبوية شريفة:
1 – الحافز الأول: يقول النبي [ : «والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك»، فكيف لا يحلو الصيام، وكيف لا تقبل عليه النفس راضية محبة، هذا الصوم الذي يستبدل رائحة فم كريهة لا يقوى المرء على شمها بريح هي عند الله أطيب من ريح المسك؟
2 – الحافز الثاني: وحين يغدو الصوم إرادة لدى الصائم يدفع بها غلواء الغريزة، وجموح النفس، ويقهر بها هيجان الشهوة، أليس جديرا أن تأنس به النفس، لتتعلم الصبر في أسمى درجاته وتتخذ منه سلاحا لتهذيب النفس وصبرها على مغريات الشهوات، ذلك ما يعبر عنه الحديث القدسي في قول الله تعالى : «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي» فالعبد يترك المطعومات والشهوات أثناء الصيام فيقابل اللهُ تعالى هذا الترك بالجزاء، قال تعالى: «يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي، الصيام لي وأنا أجزي به».
3 – الحافز الثالث: حين يفطر الصائم،يفرح بفطره، والفرح علامة على سعادة في النفس، وسكون في المشاعر، وطمأنينة في القلب، قال [ : «للصائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح وإذا لقي ربه فرح بصومه»، فيكون الفرح في الدنيا ساعة الإفطار بالإنجاز الإيماني، إنجاز الصيام، ويكون الفرح يوم القيامة حين يلقى الصائم ربه فرحا بصومه، فيا سعادة الصائمين حين يقدمون صياما صحيحا خالصا أمام ربهم، ولذلك كانت فرحة الفطر وفرحة لقاء الله بالصيام من الحوافز فرحا ليعظم جزاؤه عند الله أمام الصائم ليقبل الصائم على الصوم راضيا
4 – الحافز الرابع: حين يعلم الصائم أن في الجنة بابا لا يدخل منه إلا الصائمون، ألا تتوق نفسه إلى الدخول من هذا الباب؟ فيكون الصيام هو السبيل، وبالتالي يصوم العبد يحذوه أمل هذا الجزاء العظيم، يقول النبي [ : «إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة فيقومون. لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد»(متفق عليه).
5 – الحافز الخامس: حين يقرأ الصائم حديث النبي [ الذي يقول فيه: «من صام يوما في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا»(البخاري)، أفلا يعد الصيام حافزا للنجاة من النار؟ بلى. فكيف لا يقبل العبد على الصيام راضيا هنيا راجيا أن ينجيه الله من النار.
6 – الحافز السادس: ليس هذا فحسب، بل إن الله عز وجل يتيح للصائم حافزا آخر، فالصائم وهو يصوم يلقى ما يلقى من التعب والصبر على الجوع والعطش نهارا وتعب القيام ليلا فيكون الصوم أحد الشافعين للصائم إلى جانب القرآن، يقول النبي [ “الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة :يقول الصيام :أي رب منعته الطعام والشراب فشفعني فيه ويقول القرآن :منعته النوم بالليل فشفعني فيه .قال: فيشفعان”
7 – الحافز السابع: ومن عظيم المبشرات للصائم، ما يختم الله به للصائم من عظيم الجزاء ليعلم قدر الصيام وفضله، فيصبح للصيام مكانة كبيرة في قلب الصائم، ذلك أن الصوم وسيلة لطلب العفو والصفح ورجاء المغفرة، فإذا تحقق في صوم العبد إيمان واحتساب، ضمن الصائم لنفسه مغفرة لسائر الذنوب الماضية، ذلك هو المعنى المستقى من حديث رسول الله [ الذي يقول فيه: “من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”.
اللهم تقبل منا الصيام والقيام، وارفع درجاتنا في أعلى عليين مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين آمين.
د .كمال الدين رحموني