خلق الله عز وجل الكون وما فيه من مخلوقات وموجودات مختلفة جواهر وأعراضا، أشكالا وألوانا، أحجاما أعدادا، وظائف ومنافع، ولا يخفى أن هذا الاختلاف في الخلق لم يكن عبثا، وإنما فيه حكم وغايات تعود على الخلق نفسه بالنفع لو أحسن الناس التفكر في آياتها الكونية والقرآنية وأحسنوا تدبرها وتدبيرها. وفي سبيل بيان بعض جوانب الحكمة من خلق الخلق مختلفا يمكن عرض مقصدا من مقاصد سنة الاختلاف هذه، وهو مقصد الابتلاء، فما هو الابتلاء؟ وكيف يكون الابتلاء مقصدا من مقاصد خلق الخلق مختلفين؟ وكيف يكون الابتلاء من مقتضيات سنة الاختلاف ومقاصدها؟
أولا في معنى الابتلاء :
ورد في اللغة: «بلاه يبلوه بَلْواً وبَلاَءً: اختبره. وابتلاه: جربه وعرفه واختبره وامتحنه»(1).
«والبلاء من الله يكون خيراً وشراً، سيئا وحسناً: يقول سبحانه: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(الأنبياء : 35) {وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}(الأعراف : 168)
ذكر الإمام القرطبي عن بعض أئمة السلف أن «البلاء يكون حسنا ويكون سيئا، وأَصْلُه المحنة والله عز وجل يبلو عبده بالصنيع الجميل ليمتحن شكره، ويبلوه بالبلوى التي يكرهها ليَمْتحِنَ صبره، فقيل للحسن بلاء، وللسيئ بلاء»(2)
ثانيا مجالات الابتلاء بسنة الاختلاف في القرآن الكريم :
إن استقراء الآيات القرآنية الوارد فيها لفظ الابتلاء وما يدور في نفس السياق من قبيل: الفتنة، الامتحان، الصبر، الشكر، الإنعام… الخ. تبين لنا أن مجال الابتلاء يكون في ما يلي:
1 – الابتلاء بالآيات الدالة على الصانع:
أن اختلاف الآيات دليل على الصانع، ولما وهب الله للإنسان حواس الإدراك والمعرفة: العقل، السمع البصر والحس وغير ذلك، كان القصد من ذلك ابتلاؤه: أيجتهد في إدراك الخالق، أم يُقَصِّرُ أم يَكْفُرُ أم يجحد بالآيات؟ ولهذا قال تعالى: {وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيَاتِ مَا فِيهِ بَلاء مُّبِينٌ}(الدخان : 33).
2 – الابتلاء بنعمة التسخير :
لأن تسخير الكون وما فيه، ومن فيه للإنسان ليس نعمة وخيرا في ذاته، وإنما هو بلاء للإنسان أيهتدي أم يضل؟ أيحسن التصرف(مع الله ومخلوقاته) أم يسيء؟ أيشكر أم يكفر؟ كما قال النبي سليمان عليه السلام: {قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ}(النمل : 40.). وذلك عندما سخر الله له الجن والإنس.
والناس هنا صنفان باعتبار الإيمان والكفر: كافر وشاكر. وهذا هو القصد من الابتلاء، إنه قصد التمييز بين المؤمن الشاكر والجاحد الكافر، وترتيب الثواب والعقاب بناءً على ذلك.
3 – الابتلاء باختلاف الناس:
والدليل على كون اختلاف الناس ابتلاء لهم هو قوله تعالى:
- {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا}. فخلق الناس على هيئة يكونون فيه مختلفي القسمة في الرزق (كل ما وهبوه على جهة الوهب المباشر وغير المباشر(كسب))، وتفاوتهم في هذه المواهب والأرزاق إنما الحكمة منه أن يسخر بعضهم لبعض، ويخدم بعضهم بعضا شاء أم أبى.
- {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم}، وتشير الآية هنا إلى خلق الناس متعاقبين في الزمان يخلف بعضهم بعضا ويختلف بعضهم عن بعض اختلاف تفاوت (رفع الدرجات) واختلاف تباين(اختلاف أنواع الدرجات: المال، الأبدان، النفوس والطبائع، العقول، التواصل، …) إنما هو للابتلاء والاختبار؛ اختبار كل صنف وما سُخر له مما هو دونه أو فوقه أو مساو له في جزئية ما.
- {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}(الزخرف : 32)
وإنما كان الناس بعضهم لبعض فتنة بالنظر إلى اختلافهم في طبائعهم العقلية والنفسية والاجتماعية ومكاسبهم وشرائعهم ومصالحهم ومفاسدهم واختلاف طرائقهم في تدبير الاختلاف، هذا الاختلاف الذي يؤدي أحيانا كثيرة إلى البغي والظلم والنقمة والحروب كما قد يؤدي إلى الخير والنعمة والإحسان، ويمكن هنا أن يكون الابتلاء في:
- انقسام الناس إلى مؤمن وكافر، وابتلائهم بتدافعهم لإقرار كل طرف وجهة نظره وتصوره.
- اختلاف الناس في اكتساب الخير والشر، والحسنات والسيئات وطرق ذلك.
-اختلافهم في تقدير المصالح والمفاسد والموازنة بينهما.
- اختلافهم في فهم المخالف وتقدير خلافه ويترتب عنه أيضا اختلافهم في أسلوب التعامل مع هذا المخالف من نهج الحوار والجدال إلى الاقتتال والتقاتل.
ولخطورة الاختلاف بين الناس وأهميته حذر الله تعالى الجاحدين وهددهم بتسليط الابتلاء بالتعدد والفرقة فقال تعالى: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ}(الأنعام : 165)
إن الله شاء خلق البشر مختلفين ليبتليهم {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}(الفرقان : 20)، {وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم}(الأنعام : 65).
فالقصد من الاختلاف البشري في هذه الآيات الكريمة هو الابتلاء، وتحقيق «قانون الابتلاء الإلهي»: «لاختبار المواقف والاختيارات والقرارات التي يتخذها الناس في صراع بعضهم لبعض على نعيم الحياة»(3) «سواء أكان ذلك من خلال ما أودعه الله تعالى في طبائع الناس من اختلاف القدرات والملكات، وما منحهم من حرية الاختيار، أم من خلال ما نتج عن ذلك من اختلاف الملل والنحل ومناهج النظر والاستدلال والمعارف والعلوم»(4)، ولذلك يفهم القصد من خلق الناس مختلفين ويفهم أيضا الحكمة من وجود الاختلاف في الإنسان فطريا وكسبيا: حكمة الاختلاف للتسخير والابتلاء بهذا التسخير: فهل يوظفه الناس في الخير والعدل والتقارب والتراحم أم في نقيض ذلك؟
مستفادات عامة
انطلاقا مما تم بيانه من حكم الاختلاف ومقاصده يمكن استخلاص جملة من المستفادات منها:
ـ أن الاختلاف في عالمي الإنسان والأكوان اختلاف ابتلاء وتسخير.
ـ أن اختلاف الخلائق ابتلاء من الله لخلقه للتفكر فيها للعلم به جل وعلا ومعرفة عظمته وبديع صنعه ومن ثم كان لزاما على المؤمن أن يعتبر بهذا القصد ويجعل نظره في اختلاف الخلائق في عالم الأكوان وعالم الإنسان مدعاة للتفكر فيها ليعرف ربه ويعظمه بما يليق بجلاله وجماله وكماله.
ـ أن من حكم اختلاف الموجودات تسخير بعضها لبعض، ثم تسخيرها للإنسان، وفي ذلك دلالة على الابتلاء بنعمة التسخير التي تستوجب من الإنسان كل إنسان الشكر لله تعالى المنعم بها تفضلا منه وتكرما.
- من مقتضيات الابتلاء بنعمة التسخير أن يصح تصور الإنسان في الله جل وعلا، وفي وظيفة الموجودات، ويصح تصرفه تجاه الخالق بالعبادة والطاعة ، وتجاه المخلوق أيا كان نوعه : «مادة جامدة أو مادة حية (نبات وحيوان وإنسان)»بالعدل والإحسان.
ـ الصبر على ما يزعجنا من اختلافات الغير من بني آدم واعتبارها ابتلاء؛ {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ}(المائدة : 48)، وبناء علاقات إيجابية مع المخالف للاستفادة مما وهبه الباري من نعم ومواهب مختلفة، ومعالجة الاختلافات المستعصية بالتعقل والتروي وما أوجبه الشرع في التعامل مع المخالف.
الاستفادة من الاختلاف للتعارف والتكامل بأقصى قدر ممكن، التكامل في القدرات العقلية، والميولات النفسية ، والإمكانات المادية، لأن ذلك من شأنه أن يحقق النمو والازدهار وتبادل المنافع والخيرات ويحقق العمران النافع.
- عدم الاستفادة من الاختلاف وعدم تسخيره لصالح الإنسان يحوله إلى نقمة وشر وبلاء، ويؤذن بخراب الإنسان والعمران.
إذن ألم يأن الأوان أن نجعل اختلافاتنا اختلافات خير وتكامل وتعارف، وشكر وعبادة، وبناء للعمران على ما اقتضته حكمة الله تعالى من خلق الكون والناس مختلفين؟
—————
1 – المعجم الوسيط، مادة ابتلى
2 – القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 1/387.
3 – انظر هامش رقم 49 أعلاه.
4 – د. إدريس الكتاني، الخريطة القرنية للمجتمعات البشرية، ص: 84.
- د. أحمد التويجري، فقه الاختلاف والمستقبل الإسلامي، ص4.
- سورة الفرقان، الآية: 20.