خروق في سفينة المجتمع 59ـ السفينة تشفق عل نفسها من انصرام شهر الصيام


سفينةلكم كان إحساسي خاشعا أيها الأحباب، وأنا أدخل في حضرة الزمن الجميل، زمن رمضان الكريم، شهر الصيام والقيام والسلام، شهر الرحمة والغفران والعتق من النار،ولكم كانت جميلة ورائعة ذكرياتي فيه، لقد نزلت أيامه ولياليه بردا وسلاما على أركاني وجوانحي، وشعت دفءا ويقينا، وأمنا وأمانا في أعماقي ودواخلي، لقد شعرت بدبيب وحي السماء يعبر جسدي المتخشب الواهن، فيبعث فيه عنفوانا غير معهود، إلا في مثل هذه اللحظات الفارقة في بحر الوجود، ويضفي على وجهي من الرونق والبهاء، ما لا يعشى عن إدراكه غير العميان والبلهاء، لقد داخلني شعور جارف حقا، بتجدد كثير من أجهزتي وخلاياي، وأبصرت بعين قلبي ركاما من الخلايا الميتة وهي تندثر وتتلاشى وراء الأمواج في بحر العدم، وعاودني حينها إحساس غريب بالأمل، وبانبعاث الشباب، وبانجلاء غيوم السوداوية والاكتئاب، لقد جرت دماء طاهرة في عروقي وشراييني جراء ذلك التحول العجيب، وذلك النور المتدفق عبر السهول والجبال، والمنتشر في الحواضر والقرى، لقد عاودني الشعور بالعافية الذي ألفته في مثل هذا الشهر ومثل هذه الأيام، وخف الصداع الذي كاد يعصف برأسي، وطالما أورثني شعورا بالهم والنكد، وكراهية حياة مشحونة بالمذلة والعذاب، وبالترقب والارتياب.
لا أزعم لكم يا أحبابي أنني قد شفيت تماما من أسقامي، وتطهرت من أورامي، فأنتم تعلمون أن الداء وخيم، وأن جذوره قد امتصت دمائي، وتغلغلت في عظامي، لكنني أعرب لكم بكل اطمئنان ويقين، أن حالتي غير ميئوس منها لحد الآن، ف{لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون}، إن جسدي ما زالت به قابلية للبرء والشفاء، ولكن شريطة احترام وصفة العلاج، والتخلص من فتنة الإدمان، والصبر على مرارة الدواء.
أنتم يا ركابي ويا أحبابي من تملكون قرار استقامتي واعوجاجي، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فهل تعرفون للمسئولية حقها؟ وللأمانة حرمتها وقدرها؟ وهل أنتم تدركون أهوال البحر ومخاطر الإبحار؟ وتعدون العدة لما يطويه في أحشائه الليل والنهار؟
أنا اليوم أعيش أحلى أوقاتي وأزهى لحظاتي، وأجد خلالها أعمق إحساس بخفتي وسعادتي، إنها العشر الأواخر من شهر الفضائل والطهور، شهر المعراج إلى رحاب العزيز الغفور، إن دوام سعادتي وهناءتي يا أحبابي، رهين بدوامكم على التزام الأمر وترك المحظور، فحذار حذار من الخوض في لجج الخطايا والمعاصي، فأمواجها الهوجاء لا تبقي ولا تذر، إذا ما انطلقت من عقال، وقطعت الحبال.
وبقدر ما أستشعر برد السعادة والحبور، أشفق على نفسي من انقلاب الأمر وكشف المستور، فأخشى ما أخشاه بعد انصرام خير الشهور، هو نقض الغزل، وخواء الأفئدة وخراب الصدور. ليس هذا ديدني، ولكنه معهودي فيمن ابتليت بهم من ركابي، إلا من رحم الله تعالى.
منذ أن حل شهر رمضان بربوعي، وانتشرت نفحاته العطرة عبر مفاصلي وأطرافي، وهو ينفث في روعي بصوته النوراني الرخيم: إنني لست يا أمة الله موسما لاستعراض ألوان الطعام والشراب، ولا للتفنن في اللهو والإضحاك، ولست موسما للتمثيل والتدجيل، ولا لسن أسنة المقاتلة والسباب، ولا حتى لنشر منصات السماع لإطراب الشيوخ والشباب، إنني جئت يا أمة الله لأصوغ مجتمع عباد الرحمن، لتطهيرهم من الأدران، بعد أن أسكب في أجسادهم المتيبسة وأرواحهم الظمأى ماء القرآن، لتفور فيهم دماء الحياة اليانعة الحقة، جئت لأبشر التائبين المتقين، وأنذر المجرمين المعتدين، جئت لأصنع نموذج المجتمع الفاضل الذي يشبه في تواد وتعاطف أعضائه المؤمنين، وفي تراحمهم تعاضد أعضاء الجسد الواحد المتين، جئت لأرسم خطة الفلاح والنجاح، وأسلم لكم وصفة الشفاء من كل داء عضال، ففي روضاتي يا أمة الله تينع كل الزهور، وتنساح أروع العطور، وتبذل أطايبها الجفان والقدور، وتسمع أعذب الأصوات والألحان لأجمل الطيور. قال لي هذا رمضان، بكل حب وحنان، ووضع كفه على ناصيتي، وقرأ سورة الفاتحة وسيدة آي القرآن، وسورة الإخلاص والمعوذتين، وأوصاني باتخاذها درعا ضد شرور الإنس والجان، أليس هو سفير الرحمن، المزين بالدر والتيجان، وبالجواهر الحسان، والداعي إلى ذرى الجنان؟ ثم لبث مليا وعاد ليهمس لي بوصية مفعمة بالصدق وحب الخير: ترقبي يا أمة الله خير ليلة خلقها رب الليالي والأيام والشهور، ليلة من أدركها فقد فاز وأدرك الخير كله، ومن حرمها فقد حرم الخير كله، ثم نظر إلي ومحياه يلمع بنور أخاذ عجيب، وملء مآقيه دموع الخشوع والإشفاق، ورفع يده إلى السماء وقال: إلى اللقاء، ألا هل بلغت، ألا هل بلغت، ألا فاشهدي يا أمة الله، ألا فاشهدي.
عندها انهمرت عيناي بالدموع وغص حلقي بعبرات الحزن والأسى على فراق وشيك لأفضل ضيف وأرحم ضيف، وانطويت على نفسي أعللها بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل، وأترقب أصعب فراق وأشق رحيل.
لقد فتحت لكم سابقا قلبي يا أحبابي، وبحت لكم بأسراي ودفائن فؤادي، لتعلموا مكابداتي وتشفقوا لحالي، ولتأخذوا مأخذ الجد زفراتي وآهاتي، ولتهبوا هبة أشاوس الرجال، لتخمدوا ألسنة الحرائق التي أشعلها الجناة من أرباب الخيانة والغدر في كل ركن من أركاني، وهاأنذا أكرر لكم شكاتي، وأصرخ ملء حلقي ولهاتي، لتدركوا مأساتي، وتسارعوا لإنقاذ شرفي وستر عوراتي، فأنتم تعلمون شرفي وأصالتي وصولاتي، وتاريخ نكبتي ومحنتي، وسر بلائي ومعاناتي.
إن حرائق كثيرة أخمدت بدموع التائبين، وتأوهات العابدين في غمرة هذا الشهر العظيم، وإن مياها عذبة قد انبجست هنا وهنالك بعد قحط وإجداب، بعد أن آب الأوابون إلى رب الأرباب، وفتحت للخير أبواب.
أعرف جيدا أن بقعا من الزيوت الفاسدة ظلت تلطخ صفحات المياه من تحتي، وتسعى لعرقلة إبحاري، لكنني أعرف أيضا أن استصحاب روح رمضان، واستلهام أخلاق الصيام، كفيلان مع مرور الزمن بالتهام تلك البقع اللعينة السوداء كلها، لو أن الناس يعلمون ويفقهون. غير أني أشفق على حالي من كثرة الرمضانيين وقلة الربانيين على ظهري، أشفق على نفسي وأنا أتصور مردة الشياطين يتشوفون إلى جسدي، ويترقبون زوال السلاسل والأصفاد، لينفثوا سمومهم ويزرعوا فتنتهم في أوصالي، متحالفين مع شياطين الإنس القابعين في دهاليزي وأقبيتي، ممن استهوتهم الحياة الدنيا واطمأنوا بها، واستمرأوا طعم المعاصي والذنوب، فالله الله في سفينتكم يا أحبابي، وليكن نصب أعينكم ومعقد ألسنتكم تدبر قول الله تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غ%8