الصـوم كـلـه خيـر وبشر


اقتضت حكمة الله تعالى أن يخلق الخلق لعبادته وطاعته، ومما تعبد به الله سبحانه خلقه عبادة وفريضة الصوم التي لم يكتبها ربنا عز وجل فقط على أمة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وإنما أوجبها على الأمم السابقة أيضا قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليهم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات}(البقرة : 182 – 183).
والصوم كله خير وبركة ونعمة ومنة، كيف لا يكون كذلك وفارضه الحكيم الخبير جل في علاه، ومن مزاياه الجمة وفضائله القيمة :
أولا : الفوائد الروحية :
في شهر رمضان الأبرك حدث أهم حدث، وهو ارتباط الأرض بالسماء. ذلك أن أنوار القرآن أضاءت من الأرض كل الأركان لتقود وتهدي الانسانية إلى طريق الحق والرشاد، فتخلص العبادة للواحد الأحد. قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}(البقرة : 184).
وقد نزل القرآن الكريم بالضبط في ليلة القدر التي طلب منا رسولنا صلى الله عليه وسلم أن نلتمسها في العشر الأواخر من شهر رمضان بإحياء لياليها بكل صنوف الطاعات والقربات. ومن وفقه الله تعالى إلى مصادفتها وهو كله نشاط وهمة وعزيمة في العبادة، كانت له عدل ألف شهر من الأجر. ومصادق ذلك قول الله عز وجل: {إنا أنزلناه في ليلة القدر، وما أدراك ما ليلة القدر، ليلة القدر خير من ألف شهر}(القدر : 1 – 3).
والصوم هو العبادة التي يتحقق فيها إخلاص النية والطوية لرب البرية، وذلك لأنه سر مكنون لا يطلع عليه إلا العليم بذات الصدور. ولا غرو إذا نسبه العظيم جلت قدرته إلى نفسه، ووعد الصائمين بالثواب الجزيل. جاء في الحديث القدسي: «كل عمل ابن آدم له إلا الصوم، فإنه لي وأن أجزي به»(رواه البخاري).
والصوم كذلك وقاية وجنة للنفس من كل ما يعرضها لسخط الله سبحانه، وأليم عذابه وشديد عقابه، وذلك بالائتمار بأوامره واجتناب نواهيه، وصون النفس عن كل الدنايا والخطايا، والمبادرة إلى تزكيتها من كل ما يشينها ويدنسها، فيصير الصائم ملائكي الطبع ونوراني الخواطر ورباني السلوك، وبذلك يعتق نفسه من النار مصداقا لقول الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام: «الصوم جنة من النار كجنة أحدكم من القتال»(رواه أحمد وغيره). ويمن عليه الحنان المنان بالجنان. قال المبعوث رحمة للعالمين [ : «إن في الجنة بابا يقال له الريان، يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم»(متفقه عليه).
ثانيا : الفوائد النفسية :
مما لا يخفى أن الصوم يُعَود على الصبر والمصابرة، ويربي على ضبط النفس وكبح جماحها، كما يقوي الإرادة ويشحذ الهمة، فيكتسب المسلم شخصية قوية أبية ربانية تواجه كل المواقف برباطة جنان وجأش، ودقة تفكير وحسن تدبير، بعيدا عن كل التسرعات والتشنجات والانفعالات النفسية والعصبية.
ثالثا : الفوائد الاجتماعية :
من الفوائد الاجتماعية للصوم أنه يربي الأمة على الاتحاد والنظام ووحدة الكلمة والهدف. وحب العدل والمساواة، واستشعار الأخوة الإيمانية بين كل المؤمنين مهما تباعدت أقطارهم وناءت أمصارهم. والصوم كذلك يذكي جذوة عاطفة الرحمة والرأفة ويبعث على الإحسان لبني الإنسان. كما يجتث من المجتمع بذور وجذور المفاسد والشرور. قال الرسول [ : «الصوم جنة، فإذا كان صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل، فإن شاتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم، إني صائم»(رواه البخاري).
رابعا : الفوائد الصحية :
ولا ينبئنا بهذه الفوائد مثل خبير. فقد سئل الدكتور مصطفى الحفار أستاذ الجهاز الهضمي في كلية الطب بفرنسا عن تأثير الصيام على صحة الإنسان، فكان جوابه المثلج لصدر كل مؤمن، بحسب ما جاء في كتاب “الخطايا في نظر الإسلام” لعفيف عبد الفتاح طبارة، ص 235 – 236 ” بتصرف :
البحث العلمي الحديث أكد على منافع الصوم حتى أن أطباء وعلماء ينصحون به، ومنهم البروفسور دولور (DELORE) الذي نصح بالصوم وقاية من أمراض تأتي مع كبر السن، ومن أمراض تصيب المرء في شبابه. فالصوم له علاقة بحفظ الجسد وإراحة أعضائه من الإرهاق وينشطها، وكذلك يعدل العمل الوظائفي لبعض منها/ ويرجعه إلى الحالة الطبيعية … والأعمال المكتبية تسبب كثيرا من الرواسب التي لا يلفظها الجسم فتتراكم في الأنسجة أو في الشرايين الدموية مما يوصل أعضاء الإنسان إلى شيخوخة مبكرة والدواء يكمن في الصوم. والسمنة ومرض السكري والروماتيزم… ، وداء المفاصل والحصى الكلوية، وارتفاع الضغط الشرياني ومضاعفته على الرأس والدماغ والعين والقلب والكلى، كل ذلك يحميه الصوم. كذلك يفيد الصوم بالنسبة للكبد والمجاري الصفراوية. فهو يزيل المواد الذهنية والشحوم منها … كما أن الصوم يقي الإنسان من بعض أمراض الجلد كالجرب والحساسية والصدفية. أما بالنسبة للمعدة، فالصوم مدة أيام متوالية، يدفع بالغدد الهضمية للمعدة بأن تقلل من إفرازاتها، وهذا ما يحمي المعدة وأغشيتها الاثني عشر.
وهذا الكلام الذي جاء عن هذا العالم يجد ما يسنده ويدعمه من السنة المطهرة، ويتجلى ذلك في قول من لا ينطق عن الهوى عليه من الله تعالى أفضل الصلاة وأزكى السلام : «صوموا تصحوا»(رواه أبو نعيم).
هذا بالنسبة للأصحاء والأسوياء، وأما المرضى فقد راعى الشارع الحكيم ظروفهم الصحية، فأباح لذوي الأمراض الخطيرة والمزمنة الإفطار حتى لا يعرضوا حياتهم للخطر، لأنه -كما هو معلوم- من الضروريات التي جاء الإسلام لحفظها وحمايتها ضرورة حق الحياة الذي هو حق مقدس لا يصح المساس به إلا في حدود الشرع. ووفق هذه القاعدة، فكل من هو مصاب بمرض السكري أو قرحة المعدة أو القصور الكلوي أو بالضغط الشرياني أو قصور القلب، أو من قرر طبيب مسلم ثقة في حقه عدم الصوم، فإنه مجبر شرعا بالإفطار إذا كان الصوم يهدد حياته، وإن لم يفعل فهو مستنكف آثم، والأمر يشمل الجنسين معا الذكر والأنثى. والترخيص بالإفطار لهذه الحالات جاء صريحا وواضحا في قول الخالق عز وجل: {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين) سورة البقرة الآية 183.
فيا أخي المسلم، ويا أختي المسلمة، كونا ذوي همة، واحفظا لشهر الصوم ما له من حرمة، وصونا صومكما من كل ما يفقده أية قيمة، وبذلك تعيشان عيشة هنيئة طيبة في الحياة الدنيا، وتنعمان بسعادة أبدية وعيشة راضية في الدار الآخرة،فيكتب الله لكما الخلود وحسن المستقر والمقام في الجنة دار السلام.
اللهم اجعلنا ممن صام وقام رمضان إيمانا واحتسابا يا ذا الجلال والإكرام.

د. محمد ديان
——-
المصادر والمراجع :
ـ القرآن الكريم برواية ورش عن نافع.
ـ صحيح البخاري.
ـ صحيح مسلم.
ـ مسند أحمد.
ـ الطب النبوي لأبي نعيم.
ـ الخطايا في نظر الإسلام لعفيف عبد الفتاح طبارة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>