الشباب في التربية النبوية 2/2


قال [ : «… وشاب نشأ في عبادة الله…»

هذا فعل العبد الذي يترتب عليه تحقق وعد الله بالفضل، فالعبد هو الشاب الذي عَبَدَ الله تعالى عبادة أطّـرت نشأته وهو أمر مقدور عليه، والكريم سبحانه يتفضل بإكرام عبده الذي عبّـر له عن عبوديته وخضوعه، فيظله في ظل عرشه وناهيك بها من منـزلة.

هذا خبر من الصادق المصدوق ورد بصيغة تفيد الاطّـراد وعدم الاختلاف وعدم التخلف أي أن فضل ذي  الفضل يستغرق كل شاب تحقق فيه الوصف ويتحقق فيه وعده.

ومعلوم أن العبادة ليس طلبها مقصوراً على مرحلة الشباب بل هي مطلوبة من العبد منذ بلوغه سن التكليف وجريان القلم عليه(1) وتبقى كذلك حتى يأتيه اليقين. وقد يذهل الشاب عن عبادة ربه وتستهويه شياطين الإنس والجن فتلهيه عما خلقه الله تعالى من أجله(2) وقد يستغرق منه ذلك ردحا من الزمان.

ومتى انتبه العبد  من غفلته وعاد إلى ربه جل وعلا وأدى الذي عليه وندم على ما فَـرَط منه وعلى ما فرّط في جنب الله تعالى، فإن الكريم يفرح به وبأوبته كما في الحديث أن رسول الله  [ قال : «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه ، وعليها طعامه وشرابه فأيس منها فأتى شجرة فأضطجع في ظلها –قد أيس من راحلته– فبينا هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده فأخذ بخطامها ثم قال من شدة الفرح اللهم أنت عبدي وأنا ربك – أخطأ من شدة الفرح»(3).

غير أن  تخصيص الشاب بالذكر في هذا الموضع وبهذا الفضل الكبير له دواع كثيرة من بينها:

< أن الشاب وبحكم المرحلة التي يمر بها يكون داعي الشهوات فيه أقوى وأعتى والصبر عليها يتطلب عزيمة قوية ، فيكون مأجوراً على مخالفة نفسه الميّالة إلى الشهوات، والأمارة بالسوء، ومقاومتها، ومأجوراً على فعل الطاعات… ولا شك أن الشيخ العابد له مكانته عند الله تعالى ولكنه في الغالب لا يحتاج إلى مقاومة شهواته لضعفها ولذلك امتاز عليه الشاب العابد.

< الأصل في طاعة الله تعالى هو الأخذ بالعزائم وهي من الأحكام الشرعية الوضعية التي جعلها الشارع سبحانه أَمارة على حكمه التكليفي، ولا يُـلجأ إلى الرخص(4)، التي هي أحكام استثنائية شُرِعت تخفيفاً، إلا في الحالات والظروف الاستثنائية فإذا زالت  هذه الظروف(5) عاد الحكم إلى أصله الذي هو العزيمة. وهذه  الرخص تكثر في الغالب عند الشيوخ حتى تصبح كأنها الأصل لأنهم يضعفون عن كثير من المأمورات في الطهارة وهيئة الصلاة وفي الصيام والحج والجهاد وغيرها… فيتركون بعضها ويضطرون في بعضها الآخر إلى بدائل أخفّ… فربما ضيّع أحدهم قوته وشبابه فيما يضره ولا ينفعه وتاب بجسم واهٍ وعظم واهن… يصلي جالساً أو على جنب وبالتيمم ويطعم بدلاً عن الصيام (إن وجد ثمن المُدّ..) وقد لا يسمح له ضعفه وهرمه المفنّـد بالتفكير في بقية أسهم الإسلام.

وكثيراً ما  يُطرح السؤال: أيهما أفضل الشاب العابد أم الشيخ التائب؟

ألشاب الذي لم يذق الشهوات والملذات التي حُفت بها النار فلم يحتج إلى بذل جهد لتركها؟ أم الكهل والشيخ الذي مَـرَدَ على هذه الملذات وألفها فيحتاج إلى بذل جهد كبير للتخلص منها؟ والجواب من وجوه:

< إن الله تعالى يحب من عبده أن يطيعه وأن تستغرق الطاعة العمرَ كله –أي فترة التكليف كلها-  ومع ذلك فإن الله تعالى يرضى من عبده الشكر في أي مرحلة من العمر في الشباب أو الكهولة أو حتى في الشيخوخة، غير أن إيثار الشاب الناشئ في عبادة الله بالظل يوم الحرور يثير سؤالاً عن الكهل والشيخ العابدَيْن وعن  موقعهما؟

- هؤلاء ضيّعوا شبابهم في الشهوات والشبهات ولو عادوا إلى الله تعالى في أي مرحلة من مراحل الشباب وعمّهم اللطف لشملهم الوصف وأُلحِقوا بزمرة أهل الفضل، ولكن إذا انقضت وانصرمت مرحلة الشباب وبدأ العدّ في ما يليها من مراحل العمر فللإنسان إحدى حالتين:

أ – إما أن يستمر ويمرُد على ما هو عليه من الأُبوق عن الله تعالى وصراطه ومنهجه، والإيباق لنفسه بمختلف الموبقات حتى يغادر الدنيا ولا خلاق له في الآخرة {أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل..}…

ب – وإما أن تمتدّ إليه يد الرحمة قبل فوات الأوان، فيتوب من قريب، أي قبل أن تبلغ روحه الحلقوم، فيقلع عن الموبقات ويوفر ما كانت تستغرق منه من أوقات وما كانت تستهلك منه من أموال وطاقات فيسخر ذلك في الطاعات والقربات، فيكون بذلك عائداً إلى مولاه عودة العبد الشارد الآبق… وله عند الله تعالى مكانة وفضل نطقت بها نصوص الوحي المقدس..

< أما الشاب الذي ينشأ في طاعة الله تعالى فإنه لم يجترح من المعاصي ما اجترح غيره  ولا يتحمل ما يتحملون من أوزارهم وأوزار غيرهم الذين يضلونهم بعلم وبغير علم، لأن المعاصي شهوات وشبهات. والشهوات، وإن بدت أنها لا تتعلق بغير فاعلها ، إلا أنه قد يغري غيره بالاقتداء به فيها.وأما الشبهات فهي أخطر من الشهوات لأنها كفر بالله تعالى وإشراك به وإلحاد  في آياته وفي أسمائه وطعن في شريعته  وتكذيب لرسله ومحاربة لأوليائه… ولا شك أن كثيراً من الناس يعصون الله تعالى بمخالفة هذه المقررات العقدية، وينشرون ذلك لاعتقادهم أنه صواب أو ينشرونه محادّة للإسلام وأهله، فإذا تابوا إلى الله تعالى فهل يضمنون أن يتوب من تبعهم في ضلالهم؟ صحيح أن الله الكريم يتوب عليهم إذ قد دعاهم إلى التوبة في مثل قوله تعالى : {لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسنّ الذين كفروا منهم عذاب أليم أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه والله غفور رحيم؟}(المائدة : 72) بل ويفرح بتوبتهم ويحبهم، غير أن من نشأ في عبادة الله تعالى يكون قد تجنب تلك المعاصي كلها وصحيفته أنظف وحب الله له أسبق وفرحته به أشدّ.

< إن التائب من المعاصي –إن كان عاقلاً– فإنه يصل إلى الاقتناع بأن الأمور التي حرمها الله تعالى، فيها من المضار الكثير فيتركها عن تجربة، بينما يتركها الشاب عن إيمان وبينهما بون شاسع.. وقد تحدث العلماء عما يقوله القائلون في  الأفضلية بين رجل رتع في المعاصي وتذوّقها وأصبحت جزءً من حياته ، فإذا فكر في تركها والإقلاع عنها فإنه يحتاج إلى جهد كبير لمقاومة نفسه وقد رضعت ألبان المعصية وأبت الفطام… فهل يكون، ببذله هذا الجهد وبإيثاره طاعة الله على هوى نفسه، أفضل من شاب نشأ في طاعة الله تعالى ولم يتذوّق تلك المعاصي ولم يحتج إلى بذل جهد لمقاومة رغبته فيها ولتركها لوجه الله تعالى؟… ومهما يكن ما قيل في ذلك وما يقال فإن الذي تعلق قلبه بالمعاصي ليس له مندوحة في تركها، لأنه إن لم يفعل وباغتته المنية فلقي الله تعالى وهو على معصيته فقد خاب وحسر وبئس المصير مصيره، وإن تركها ووجد في تركها من المشقة ما وجد فذلك ما جناه على نفسه وما جناه عليه أحد، والله تعالى يقول: {فكلاً أخذنا بذنبه…}(سورة القصص)، وإن تفضل الكريم وضاعف له الثواب فلا يعني أن يكون أفضل من شاب نشأ مستقيم السيرة وطاهر السريرة، ويكفيه أن تكون نشأته في عبادة الله قد أهّلته إلى الحظوة بالقرب وتفيُّـؤُ ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله ولم يحظ التائب بذلك…

< إن الشاب الذي نشأ في طاعة الله تعالى بادر إلى الاستجابة في أول وقت التكليف واستمر مطيعاً يبرئ ذمته  طول الوقت، بينما تأخر غيره عن الاستجابة حتى قضى جزءً من وقت التكليف مصروفاً عن الله إلى سواه، معرضاً عن هدى الله ومتّـبعاً ما يمليه عليه هواه… فإن تاب فيما بقي من عمره وجُـبَّ – بكرم الكريم- ما اقترف قبل التوبة، فإن من أسلم عمره كله لله ليس كمن جعل منه نصيباً لسواه.

والخلاصة أن هذا الشاب قضى حياته الدنيا في ظل الشريعة ولم تلفحه نار المعاصي فكان بفضل الرحمن جديراً  أن يكون في الآخرة في ظل العرش ولا يتعرض لحرور عرصات يوم القيامة.

وسكت رسول الله [ على المراحل التي تلي مرحلة الشباب استغناء بما يدل عليه الجزاء من أنه بقي عابدا لله تعالى حتى أدركه الموت وهو على ذلك لأنه، إن كان عابدا في مرحلة الشباب فهو في غيرها من المراحل أعبد ولأن الجزاء المذكور في الحديث دليل على حسن الخاتمة.

——–

1 – هذا المعنى مستلهم من قوله [ : «رفع القلم عن ثلاثة …وعن الطفل حتى يشِبَّ…».

2 – هذا الكلام مستوحى من الحديث القدسي الذي يقول فيه الباري جل وعلا:” عبدي خلقت الدنيا من أجلك وخلقتك من أجلي فلا تشتغل بما هو عما أنت له”.

3 -  متفق عليه .

4 – التي هي أيضا من الأحكام الوضعية.

5 – المرض الذي ينقل العبد من وجوب الوضوء إلى الاكتفاء بالتيمم أو من وجوب الصلاة قائما إلى الاكتفاء بالصلاة قاعداً أو على جنب ومن وجوب الصيام إلى الإطعام  وكذلك السفر وغير ذلك من الأمور التي تعفي العبد من الحج والجهاد وأمور أخرى كثيرة …

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>