مـــاذا بـعـد رمـضــان؟


1437391718

ذ. خالد العمراني

الخطبة الأولى:

يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُون}(يونس 58)، وكيف لا تفرح الأمة وضيفها المنتظر قد وصل وبسط موائده بالخير والبركات وعطر الجو بالطيب والنفحات، وكيف لا تفرح الأمة وروح جديدة دبت فيها وطاقة لا حدود لها زرعت فيها، وحشد أفرادها بهمة لا نظير لها، إقبال كثيف على المساجد وازدحام في المصليات، وغزارة في المواعظ والدروس، وحماسة في الخطب لتحفيز الناس على مزيد من الإقبال واغتنام الشهر المفضال، كل ذلك ينبئ عما يغمر القلوب من إحساس بعظمة الشهر الكريم، واستشعار لفضيلته ومزيته على بقية الشهور.

هي حالة تتكرر في الأمة مع مقدمه كل عام، وتعيش المجتمعات الإسلامية حالة من الإقبال على الله تعالى، والطاعة له، والتزود من معين رضاه وتلاوة كتابه والتزام عبادته، وكم يتمنى الإنسان أن تستمر الأمة على هذا المنوال وأن تواصل السير في هذه الطريق، لكن فبمجرد انقضاء رمضان يعود ويا للأسف كثير من الناس إلى ما كانوا عليه قبل رمضان من تفريط في الصلوات والاستهانة بالجمع والجماعات، والانخراط في قبيح العادات والسلوكات،  واقتراف الآثام والسيئات،  وأصبحنا أمام حالة أقل ما يقال فيها:

إن بعض افراد الأمة الذين لم يستفيدوا من الصيام كأنهم كانوا في استقبال ضيف تكلفوا أن يظهروا  له بما ليس من حقيقتهم وواقعهم؛ من البهجة والزينة ومظاهر الرفعة والعظمة، فإذا ما غادر الضيف عادوا إلى حالتهم وطبيعتهم، وذهب عنهم ما تقمصوه تكلفا وتمظهرا ليس إلا.

إذن أيها الأحبة الكرام إننا نعيش أزمة تجاه الإصلاح المنشود في هذا الشهر المبارك، وتجاه الاستثمار الأمثل لعناصر ووسائل الترقي  التي يتيحها الله فيه، أزمة تتلخص في عدم الاستفادة من هذا المهرجان الرباني العظيم، شهر الخيرات شهر البركات الذي من حرم خيره فقد حرم. هي أزمة ازدواجية الشخصية في التعبد لله تعالى نعبد الله في رمضان بوجه فإذا أدبر رمضان عبدناه بوجه آخر.

سميتها أزمة لـمَّا أنها تتكرر كل عام وبدون أدنى فارق بين تانك العام وهذا العام، كأننا ندور في حلقة مفرغة، يأتي رمضان نعيش أجواء رمضان أو بالأحرى طقوس رمضان ثم نعود إلى ما كنا عليه من غير اكتراث بوجوب الحفاظ على المكتسبات التي حصلناها في رمضان.

لعل مرد هذه الأزمة إلى خلل في الفهم لمقاصد شهر الصيام، وهو أنه ليس شهر الحرمان من الأكل والشرب والفرج، وكثير من الناس يقفون عند حد أنه فرض وأنه أحد أركان الإسلام وأنه أمر إلهي، لا يتوسعون في معانيه ليدركوا عظمته وروحانيته وأنه شهر التزكية وشهر التربية وشهر التزود وشهر يراد به ما بعده،  يراد منه مواصلة السير على الطاعات والتدرب على القربات في شهر لمواصلة العمل طيلة العام. كذلك عندنا خلل في التطبيق والممارسة؛ حيث أخرجنا شهر الصوم عن معنى الصوم وأفقدناه روحانيته وحلاوته، هو شهر روحاني بامتياز فأصبح شهوانيا بامتياز، شهر التقليل من الأكل فاصبح شهر الإكثار من الأكل بامتياز فقط قلبنا الليل نهارا والنهار ليلا، هذا الخلل في الفهم والتطبيق نتج عنه أننا لم نستفد من مدرسة الصوم ولا نتخرج منها بميزة مشرفة؛ بل لا نغالي إن قلنا إننا نرسب في كل سنة رغم التكرار، والدليل عدم استمرارنا في العبادات التي ألفناها وعاهدنا الله تعالى عليها في رمضان، فرمضان لما بعد رمضان وسر قبول الأعمال وعلامة النجاح فيها الاستمرار، وأن تظل حية تنمو وتتكاثر وتتشعب وتتنوع، بمعنى أن يكون حال العبد بعد رمضان أفضل منه قبل رمضان، وألا نكون كطالب استعد للامتحان فإذا مر الامتحان نسي ما حفظه وأهمل ما تعلمه، فكان كمن لم يقرأ ولم يتعلم. فمواسم الخيرات هي مثل المواسم الدراسية التي يقضيها الطالب في كل فصل ليكتسب فيه معارف وعلوم ومهارات جديدة، فكذلك رمضان هو بمثابة محطة يتزود منها المومن بطاقة إيمانية تعينه وتقويه على السير، وليس ضروريا أنه بعد أول رمضان يثبت الإنسان على القدر المطلوب من الطاعات الواجبة لمولاه عليه، ولكن الذي يستطيع أن يحصله الإنسان أن يثبت بقدر، فإذا جاء رمضان الذي بعده أعطاه دفعة أخرى تجاوز بها القدر السابق، فإذا جاء الذي بعده فعل مثل ذلك او اكثر حتى يصل الإنسان المستوى الذي يرضاه الله تعالى منه إن على مستوى الكم أو على مستوى الكيف، فمستوى الكم لا حد له فرسول الله وهو من هو كان يكثر من الطاعات ويقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، ومستوى الكيف أن يؤدي ذلك بإحسان وإتقان «أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

ولعل الخلل في نهاية وبعد رمضان له علاقة ببداية رمضان، فإذا صحت البدايات صحت النهايات والعكس.

ومما يجب في البداية؛ نية الصيام إيمانا واحتسابا ونية القيام إيمانا واحتسابا. وأن يكون رمضان بداية انطلاقة للخير والعمل الصالح والالتزام والتقوى والعبادة والسلوك، وأن نعقد العزم على الاستمرار على ذلك إلى أن نلقى الله تعالى بإذنه وعونه وقوته؛ وإلى الأبد، فإننا إن نوينا الاستمرار وبرمجنا أنفسنا، وأعطينا إشارات قوية للدماغ بعزمنا على الاستمرار وعدم التوقف صار العقل والدماغ هو المحرك وهو الدافع لأنه برمج على ذلك كما هو معلوم في علم البرمجة اللغوية والعصبية، زيادة على ما وعد الله به من معونته وتوفيقه وهدايته لمن جاهد نفسه  على الثبات  والاستمرار  في الطاعات والقربات التي ألفها في رمضان وهذا أسمى ما يعول عليه في المسألة؛ هداية الله وتوفيقه، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}(العنْكبوت : 69)،  وقال جل جلاله: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ}(محمد : 17)، وقال الله تعالى في الحديث القدسي: قال: «إذا تقرب العبد إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إليّ ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة»(رواه البخاري). فنية المداومة والاستمرار على الطريق سيرا إلى الله تعالى  مطلوبة بأمره سبحانه في قوله تعالى: {واعبد ربك حتى ياتيك اليقين} فإذا لم تكن لنا نية الاستمرار نكون كمن دخل في عمل لأيام معدودات ينتظر بفارغ الصبر متى ينتهي منه ليستريح ويضع الحمل من على عاتقه، وبمجرد إنهاء العمل يصاب بالخمول والكسل وحب الإخلاد إلى الارض ولم يجد من نفسه معينا ولا من ذاته محركا فيتوقف. وكيف يتوقف الإنسان عن الكسب ويقتصر على ما مضى وهو لا يدري مدى قبولها أو ردها وحتى إن قبلت لإن لم تكن إلى الزيادة فهي إلى النقصان لا محالة لأنها لا تثمَّر، وهي رأس المال ورأس المال ينمو ويكثر بالاستمرار في التجارة والربح، فإذا ما توقف التاجر عن تجارته أوشك أن يعود على رأس ماله فيأكله ويبدده ويصبح في عداد الفقراء والمعدمين.

فليختر كل منا مع من يريد أن يكون مع الأغنياء والتجار الرابحين أم مع الفقراء والكسالى  والخاملين.

نفعني الله وإياكم بالقرآن المبين…..

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا كثيرا……

أما بعد فيأيها الأحبة الكرام: يجب أن نعلم أن رمضان فرصة ذهبية لا يجب تضييعها أو التفريط بها، وهو ميدان للتسابق في الخيرات لنيل أعلى الدرجات، والفوز بجنة عرضها الأرض والسموات، يقول النبي [ : «أَتَاكُمْ رَمَضَانُ شَهْرٌ مُبَارَكٌ، فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْكُمْ صِيَامَهُ، تُفْتَحُ فِيهِ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَتُغْلَقُ فِيهِ أَبْوَابُ الْجَحِيمِ، وَتُغَلُّ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ، لِلَّهِ فِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَ خَيْرَهَا فَقَدْ حُرِمَ».

وهذا الموسم العظيم ينبغي للعاقل اللبيب، أن يغتنمه في الطاعة والعبادة والقربة لله تعالى، فإن الإنسان لا يدري ما يعرض له من مشاغل وشواغل، ولا يدري من يطالبه في ما بقي من حياته، فإن المرض مطالب له وهو ناقض للصحة، والموت قاطع لطريق الحياة، فمادام المرء في سعة من صحته ونفسه وماله؛ فليبادر بالأعمال الصالحة قبل الفوات، ما دام في زمن الإمكان، يقول المصطفى : «اغتنمْ خَمْسًا قبلَ خَمْسٍ: اغتنمْ حَيَاتَكَ قبلَ مَوْتِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وشَبَابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وغِنَاكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَرَاغَكَ قبلَ شُغْلِك».

قال ابن القيم رحمه الله  : "انّ الرّجْلَ إذَا حَضَرَتْ لَهُ فُرْصَةُ الْقُرْبَةِ وَالطّاعَةِ فَالْحَزْمُ كُلّ الْحَزْمِ فِي انْتِهَازِهَا وَالْمُبَادَرَةِ إلَيْهَا، وَالْعَجْزُ فِي تَأْخِيرِهَا وَالتّسْوِيفِ بِهَا وَلَا سِيّمَا إذَا لَمْ يَثِقْ بِقُدْرَتِهِ وَتَمَكّنِهِ مِنْ أَسْبَابِ تَحْصِيلِهَا، فَإِنّ الْعَزَائِمَ وَالْهِمَمَ سَرِيعَةُ الِانْتِقَاضِ قَلّمَا ثَبَتَتْ وَاللّهُ سُبْحَانَهُ يُعَاقِبُ مَنْ فَتَحَ لَهُ بَابًا مِنْ الْخَيْرِ فَلَمْ يَنْتَهِزْهُ بِأَنْ يَحُولَ بَيْنَ قَلْبِهِ وَإِرَادَتِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ الِاسْتِجَابَةُ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ}(الْأَنْفَالُ : 24) وَقَدْ صَرّحَ اللّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذَا فِي قَوْلِه:  {وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوّلَ مَرّةٍ}(الْأَنْعَامُ 110)

عن أَنَسٍ ] قَالَ:  كَانَ رَسُولُ اللَّهِ [ يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِك»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، آمَنَّا بِكَ، وَبِمَا جِئْتَ بِهِ، فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ، يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ».

فاللهم يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلوبنا عَلَى دِينِك وطاعتك، اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

اللهم كما بلغتنا رمضان فاجعل حظنا منه الرحمة والمغفرة والعتق من النيران والفوز بالجنان، ولا تجعل حظنا منه الخزي والبوار والخسران، إنك أنت الجواد الحنان المنان. اللهم اجعل صلاتنا فيه صلاة الخاشعين، وصيامنا صيام السائحين، وقيامنا قيام القانتين، اللهم وفقنا إلى عبادتك وطاعتك على الوجه الذي ترضاه يارب العالمين. اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا، وتول أمرنا وكفر عنا سيئاتنا وارفع درجاتنا واهدنا سبل السلام….

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>