توجيهات نبوية لبناء مجتمع العلم والمعرفة
عن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله [ : «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه»(رواه مسلم)
أعطى الوحي الإلهي أهمية كبيرة لطلب العلم والاشتغال به؛ وذلك لكونه السبيل الوحيد لإصلاح الفرد، وبناء مجتمع إسلامي قوي عبر ترسيخ سلوك القراءة والبحث العلمي .
وقد جاء في هذا الحديث قوله [ : «.. ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا الى الجنة». فما دام العلم باقيا في الأرض ، فالناس على هدى ، وبقاء العلم ببقاء حملته ، فإذا ذهب حملته ومن يقوم به ، وقع الناس في الضلال.
وقال الحسن: “العلم علمان : علم على اللسان ، فذاك حجة الله على ابن آدم، وعلم في القلب، فذاك العلم النافع”.
وسلوك الطريق لالتماس العلم؛ يدخل فيه سلوك الطريق الحقيقي كالسفر، والمشي إلى المدارس، والمساجد، والجامعات، وحضور الندوات، والمؤتمرات، واللقاءات العلمية، قصد طلب العلم والاستماع لأهله. ويشمل أيضا سلوك الطريق المعنوي المتمثل في قراءة الكتب، وفهمها، وحفظ ما يستوجب حفظه وتبليغه للناس، وهذا الحديث يعم الفرد، كما يعم الدولة التي يجب عليها أن تسلك طريق نشر العلم والمعرفة عبر سياسة تربوية ممنهجة، تنهل من هويتنا، وتاريخنا، وثقافتنا.
إن الاهتمام بالعلم يتطلب منهجا تربويا واضحا يهدف إلى توفير البنيات التحتية من مدارس، وجامعات، وتزويدها بالأجهزة اللازمة، والأطر البشرية المؤهلة، لتحقيق استقلالية الدولة في اتخاذ القرارات، وعدم الاتكال على غيرها في كل كبيرة وصغيرة. ولن تتقدم هذه الأمة قيد شبر ما لم تعد النظر في سياستها التعليمية، وتترك سياسة الإقصاء والتهميش للكفاءات العلمية، والتقليل من أهميتهم، والتحقير من شأنهم. فالعلم الذي يقصد به وجه الله يرشد صاحبه إلى طريق الهداية والخير، وهو عينه طريق الفوز بالجنة.
وعندما تخلت الأمة الإسلامية عن الاهتمام بالعلم؛ عم الجهل، وانتشر الفساد، فكثرت الجرائم، وظهر التطرف الفكري والفهم الخاطئ لأحكام الشرع، وقد تجلى هذا الأمر جليا عندما قررت بعض الدول محاربة مادة التربية الإسلامية في المدارس العمومية؛ من حيث تقليص عدد ساعات تدريسها إلى ساعة واحدة في الأسبوع، ومن حيث معامل النجاح فيها إذ أرجعته إلى معامل واحد إشعارا للتلميذ بعدم أهميتها، وكذلك من حيث مضمون مقرر هذه المادة الذي أفرغ من محتواه.
ولا شك أن هذه الدول استجابت بذلك لتوصيات خارجية، فكانت النتيجة أن الله ابتلانا بفئة جاهلة لأحكام الشرع استباحت دماء الناس بغير حق، ولم يكن هذا ليحدث لو كان التلميذ يتلقى الإسلام بأحكامه المقررة عند العلماء داخل حجرة الدرس، من مدرس متخصص يفهم مقاصد الشرع وقواعده العامة. فالانحراف الفكري والتطرف الديني أتى نتيجة إهمال الدول الأسلامية لسياسة تعليمية واضحة المعالم، تنطلق من خصوصيتنا الدينية واللغوية وتنفتح على ما عند غيرنا في مختلف المجالات المفيدة. وقد بين الرسول [ هذا الواقع المر بقوله: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، فإذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا».
وقد حفز النبي [ الأمة على الاشتغال بالعلم بقوله : «وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده». ومعنى السكينة في الحديث الطمأنينة وشعور النفس بالراحة والارتياح. وغشيتهم الرحمة أي: أنها اكتنفت هؤلاء من جميع جهاتهم ومن فوقهم، فلا يتسلط عليهم الشيطان وهم على تلك الحال، فصارت الرحمة عليهم كالغشاء لا ينفذ إليهم غيرها.
"حفتهم الملائكة.." أي: تطوف بهم وتدور حولهم.
لعمري؛ إن هذا الجزء من الحديث أزال كل الأعذار التي يمكن أن نلجأ إليها لتبرير جهلنا وتخلفنا، وقد وضح بشكل صريح فضل طلب العلم والاشتغال به. فماذا ستقول أمة انتشرت فيها الأمية بنسبة فاقت نصف سكانها لربها بعد هذا الحديث؟
ويدل الحديث أيضا على استحباب الجلوس في المساجد لتلاوة القرآن ومدارسته ، إن حمل على تعلم القرآن وتعليمه ، وفي صحيح البخاري عن عثمان ]، عن النبي [، قال : «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». وإن حمل على ما هو أعم من ذلك، دخل فيه الاجتماع في المسجد على دراسة القرآن مطلقا.
وفي هذا السياق؛ ذكر حرب أنه رأى أهل دمشق وأهل حمص، وأهل مكة، وأهل البصرة، يجتمعون على القرآن بعد صلاة الصبح، لكن أهل الشام يقرءون القرآن كلهم جملة من سورة واحدة بأصوات عالية، وأهل مكة وأهل البصرة يجتمعون، فيقرأ أحدهم عشر آيات، والناس ينصتون، ثم يقرأ آخر عشر آيات، حتى يفرغوا. قال حرب: “وكل ذلك حسن جميل. وفي صحيح مسلم عن معاوية أن رسول الله [ خرج على حلقة من أصحابه، فقال: “ما يجلسكم؟” قالوا: جلسنا نذكر الله عز وجل، ونحمده لما هدانا للإسلام ومن علينا به، فقال: «آلله ما أجلسكم إلا ذلك؟» قالوا: آلله ما أجلسنا إلا ذلك، قال: «أما إني لم أستحلفكم لتهمة لكم، إنه أتاني جبريل، فأخبرني أن الله تعالى يباهي بكم الملائكة».
والظاهر أن الحديث عام في طلب العلم النافع، سواء تعلق الأمر بالقرآن الكريم أو بالعلوم التي تساعد على فهمه وفهم سنته [ بل يدخل في ذلك أيضا العلوم البحتة لتوقف مصالح الناس عليها، ولكونها تحقق للأمة الريادة والاستقلال بذاتها، وهذا من المصالح العامة التي يجب على الأمة الإسلامية أن تجعلها ضمن أولوية سياستها.
كما أن لفظ المسجد لا مفهوم له، إذ في عصر الرسالة كان المسجد هو المدرسة التي يتعلم فيها الصحابة رضوان الله عليهم أمور دينهم، وإلا فالفضل يشمل كل مكان يخصص لطلب العلم النافع؛ فالمسجد وسيلة فقط وهي تتغير بتغير الزمان والمكان، والمقصد ثابت وهو الاشتغال بالعلم ونشره، فإذا تحققت شروطه المطلوبة وهي: العمل بمقتضاه، والإخلاص في نشره ابتغاء وجه الله، وترك المباهاة به، وترك الأنفة من قول لا أدري، والتواضع به، واحتمال الأذى في تبليغه، والقصد إلى الأحوج فالأحوج أثناء التعليم. فإذا توفرت هذه الشروط نال صاحبها السكينة، وغشيته الرحمة، وحفته الملائكة، وذكره الله فيمن عند. وذكر الله لعبده : هو ثناؤه عليه في الملأ الأعلى بين ملائكته ومباهاته به وتنويهه بذكره. قال الربيع بن أنس : إن الله ذاكر من ذكره ، وزائد من شكره ، ومعذب من كفره ، قال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور}(الأحزاب: 41 – 43).
ونختم الكلام بما ختم به سيد الأنام هذا الحديث فقال [ : «ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه». معناه أن العمل هو الذي يبلغ بالعبد درجات الآخرة ، كما قال تعالى : {ولكل درجات مما عملوا}(الأنعام: 132)، فالعمل الصالح معيار لتمييز الصالح من الطالح، فمن أبطأ به عمله عن السير والإسراع إلى الله تعالى، لم يفده نسبه مهما كان عريقا أو شريفا في بلوغ تلك الدرجات وتبوؤ تلك المنازل، فإن الله تعالى رتب الجزاء على الأعمال، لا على الأنساب . قال تعالى : {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون}(المؤمنون:101) وقد انشد بعضهم قائلا:
لعمرك ما الإنسان إلاَّ بدينه
فلا تترك التقوى اتِّكالاً على النسب
لقد رفع الإسلامُ سلمانَ فارس
وقد وضع الشرك النسيبَ أبا لهب
وفي الصحيحين قال رسول الله [ : حين أنزل عليه : {وأنذر عشيرتك الأقربين}الشعراء : 214). «يا معشر قريش، اشتروا أنفسكم من الله، لا أغني عنكم من الله شيئا، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئا، يا عباس بن عبد المطلب، لا أغني عنك من الله شيئا، يا صفية عمة رسول الله، لا أغني عنك من الله شيئا، يا فاطمة بنت محمد، سليني ما شئت، لا أغني عنك من الله شيئا”
إن من أهم الخلاصات التي يمكن الخروج بها من هذا الحديث ؛هو أنه لخص لنا التصور النبوي لبناء مجتمع مسلم قوي ويقوم هذا التصور على المبادئ التالية:
1 – ترسيخ ثقافة التعاون بين أفراد المجتمع المسلم.
2 – الإرشاد إلى سياسة تربوية متطورة تعتمد على القيم الإسلامية.
3 – ضرورة المزج بين العلم والعمل لتحقيق التقدم الدنيوي والفوز بالجنة.
ذ. محمد البخاري