ابن عرفة، اسمٌ كتب الله له الذيوع والانتشار، فظل يتردد لقرون على لسان كل عالم وتلميذ، وعرفه كل مؤلّف وكل كتاب، واقترن هذا الاسم بتعريف المصطحلات، وبيان حد كل علم، مما لم يأت أحد بمثله، ولا نسج عالم على منواله.
إنه –كما يعرف طلاب العلم- ابن عرفة الإمام، الشيخ الحافظ، الفقيه المفسر، المحقق المدقق.. الذي لم يرض لنفسه الدخول في الولايات، واقتصر على الإمامة والخطابة بجامع الزيتونة، وانقطع للاشتغال بالعلم تدريسا وتأليفا..
قال الداودي فيه “اجتمع على اعتقاده ومحبته الخاصة والعامة، ذا دين متين، وعقل رصين، وحسن إخاء وبشاشة وجه للطلاب، صائم الدهر، لا يفتر عن ذكر الله وتلاوة القرآن إلا في أوقات الاشتغال، منقبضا عن مداخلة السلاطين، لا يرى إلا في الجامع أو في حلقة التدريس، لا يغشى سوقا ولا مجتمعا، ولا مجلس حاكم إلا أن يستدعيه السلطان في الأمور الدينية، كهفا للواردين عليه من أقطار البلاد، يبالغ في برهم والإحسان إليهم وقضاء حوائجهم.
وقد خوله الله من رئاسة الدين والدنيا ما لم يجتمع لغيره في بلده، له أوقاف جزيلة في وجوه البرّ وفكاك الأسرى، رأسا في العبادة والزهد والورع، ومناقبة عديدة وفضائله كثيرة”
هذا الرجل الذي بلغ من العلم والزهد والعبادة ما بلغ مما سبقت الإشارة إليه، لم تكن همته في ولاية يتولاها، ولا دنيا يتملكها، ولا أشباه ذلك مما تتطلع إليه النفوس الصغيرة، وتتشوف إليه القلوب الضعيفة، وإنما كان أكبر همه، ومنتهى رغبته، وأقصى رجائه أن يموت على الإسلام، فكان يقصد من لم يذنب بعد من الصبية الصغار يرجو دعاءهم له بذلك، ويتوسل إلى أولياء أمورهم في تحقيق ذلك..
قال الأبي –وهو تلميذ ابن عرفة- كان شيخنا من حسن الصورة والكمال على ما هو عليه معروف، وكان شديد الخوف من أمر الخاتمة، يطلب كثيرا الدعاء له بالموت على الإسلام، ممن يعتقد فيه خيرا، أعطاني يوما شيئا مما يتصرف به الأولاد، وقال: أعطه للولد الذي عندك، وكان ولدا سباعيا –أي ابن سبع سنين- وقل له يدعو لي بالموت على الإسلام، رجاء قبول دعاء الصغير، فلحقني منه عَبرة وشفقة”
إنها الخاتمة، وما أدراكم ما الخاتمة؟ وإن شئت فقل: إنها المقدمة الفاتحة، التي يجب أن يموت عليها كل أحد، ولكن.. لا يضمن أن يموت عليها كل أحد.. فيا للمفارقة.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} فمن ختمت حياته بخير فتلك لعمري مقدمة سعادته الدائمة، وفاتحة فرحته الممتدة، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} فما أسعد من خُتِم له بخير، وما أتعس وأبأس وأشقى من ختِم له بشر “إن أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات، فيكتب عمله، وأجله، ورزقه، وشقي أو سعيد، ثم ينفخ فيه الروح، فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار، فيدخل النار» صدق رسول الله [.
رحمك الله أيها الإمام، وألحقنا بك مسلمين محسنين تائبين عابدين لا مبدلين ولا مغيرين ولا فاتنين ولا مفتونين، آمين.. آمين.
د. امحمد العمراوي
رئيس جمعية العلماء خريجي جامع القرويين