مفتح الغواية
{خطاب إلى أهل الهداية}
الناس طائفتان: أهل الهداية وأهل الغواية. وقد تحددت دلالة الهداية والغواية من القرآن والسنة، ومهما حاولنا إضفاء دلالة جديدة عليها زغنا عن الطريق.
وقد حذرنا الرسول من سبل الغواية، ومن احتقار شؤون صغيرة في حياتنا، وهي قد تردي صاحبها، وتلقي به إلي مهاوي الردى، فقال عليه الصلاة والسلام في خطبته الجامعة، بحجة الوداع: «أما بعد أيها الناس، فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبدا، ولكنه إن يُطَعْ فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم». سيرة ابن هشام.
وحديثي اليوم مع الأدباء والمتأدبين.
لقد كان رسول الله [ حريصا على تميز المسلم في كل شيء، وكما أنه لم يرض عليه السلام بأن يدعى إلى الصلاة بأسلوب اليهود أو النصارىأو المجوس، كان يتعهد الأدباء والشعراء بالتوجيه حتى لا يتبعوا ما هو من شعائر أهل غواية من الكلام. وعندما قال كعب بن زهير مادحا له :
إن الرسول لسيف يستضاء به
مهند من سيوف الهند مسلول
قال موجها: بل من سيوف الله.
وقد وقف محمد إقبال، وهو شاعر الإسلام الحكيم، عند هذه القصة فقال في ديوان: أسرار خودي:
كعبٌ الشاعرُ في خير العبـــادْ
أنشد المدحة من «بناتْ سعـــادْ»
نظــــــم الدّرّ منيــرا في ثنـــــاه
من سيوف الهنـــد سيفا قد دعــــاه
مَنْ على الأفــــلاكِ فيــــــه رفعــــةُ
لم تــــــرقـــهُ لبــــلادٍ نسبـــــــةُ
قال: سيْـــــفٌ من سيوف الله قــلْ
يا نصيــر الحــقّ زوراً لا تقـــــلْ
ولو كان إقبال من أنصار القوميات والعصبيات لراقته نسبة كعبٌ السيوف إلى بلده، الهند. ولكنه ظل طوال حياته ثائرا على العصبيات للأوطان والأعراق، فلذك وجد شفاء في توجيه الرسول .
وعندما قال كعب بن مالك :
مجالدنا عن جذمنا كل فخمة
مذربة فيها القوانس تلمع
وجهه إلى أن يقول: «عن ديننا»، لا «عن جذمنا».
وقد سعى اهل الغواية من الأدباء في عصرنا الحديث إلى شحن تعبيراتهم بكل ما يناقض معتقداتنا، فتابعهم طائفة من أدباء الهداية في ذلك، ظنا منهم أن ذلك من التجديد، فزلت أقلامهم وأقدامهم، وهم يحسبون انهم يحسنون صنعا. وقد وقف محمد إقبال رحمه الله تعالى ضد التجديد الزائف، مبينا خطورته، وموضحا أن التجديد إنما هو في تجديد ما كان عليه الرسول [ وأصحابه رضوان الله عليهم.
ومن صور تحريف المعاصرين وضلالاتهم أنهم راحوا يمجدون كل صور الغواية، كالكفر والخيانة والانحراف والعهر، وقد تولى كبر ذلك أدونيس وجماعته. وهذا أمل دنقل يقول:
المجد للشيطان
من قال: لا، في وجه من قالوا: نعم
فوجد من يستقبل هذا القول الهجين بالترحاب والتصفيق.
ومن أخطر صور الغواية استعمال مصطلحات أهل الغواية وتمجديها، ومنها لفظ الغواية نفسه، وهو لفظ لا يدل، في كل آيات القرآن الكريم وأحاديث نبي الله عليه السلام، إلا على اتباع إبليس وجنده، وما يرد في معرض المدح قط.
ولكننا وجدنا شيوع هذا المصطلح في معرض المدح، تسلل به أهل الغواية، فتلقفه منهم أهل الهداية من الأدباء على غفلة من الحس الإيماني، فكاد يهوي بهم. فها هم يتحدثون عن «غواية الحكي»، و«غوايةالسرد» و«غواية التأويل»، و«غواية الخطاب السيميائي»، وما إلى ذلك، كل ذلك في معرض المدح والثناء، وكأنهم لم يقرؤوا قط قوله تعالى: {وعصى آدم ربّه فغوى. ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى}(طه)، فجعل سبحانه الغواية مقابلة للهداية. ولا قوله عز وجل: {فأغويناكم إنا كنا غاوين}(الصافات)، فالغاوون لا يرضون إلا أن يسقطوا في حبائل الغواية سواهم. والغاوون هم الذين قال عنهم الله عز وجل في تصنيف الشعراء: {والشعراء يتبعهم الغاوون. ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون}(الشعراء). وقال تعالى حكاية عن إبليس، رأس الغواة: {لأغوينهم أجمعين}(الحجر). وفرق الحق سبحانه بين أهل الهداية وأهل الغاوين فقال: {إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين}(الحجر).
فعلى أيّ وجه حملت الفراشة لفظ الغواية؟
لنستمع إليها:
مغلولةٌ
بعُقود النور
تلبسُني
أنا الفراشةُ
أفنَى في أحاسيسي
****
كأنما الصَّلبُ
في المَابين
من شَغَفي
تتلو اغتياليَ
ناياتُ الحَناديس
****
تكلّسَ الخطوُ
في الأضداد مُغترفا
من كوثر الموت
مَوّار الفَراديس
****
فلا شففتُ على
النيران غاويةً
ولا كشفتُ أنا
عن ساق بَلقيس
إذا كان للشعر منطقه، فإن هذا المنطق في نهاية الأمر، على خصوصيته، لا يرتد إلى نقيض المنطق العقلي، وإن كانت له مداخله الخاصة، تجعل الشعر لا يمشي على طريق «تنافر الأضداد»، كما سماها يوما شوقي ضيف رحمه الله، وهو يدرس شعر أبي تمام، بل الشعر يسعى على «تحاور الأضداد»، وعلى هذا نفهم أغلال عقود النور، إذ الأغلال ظلمة، ولكن النور طارد للظلمة، لذلك تفقد الأغلال دلالتها السلبية، وتصبح عقدا، والعِــقد عَــقْــدٌ وعهد مع الجمال، وهذا الجمال هو الذي يلبس الفراشة، لا العكس. ولكنّ الغواية تظل هي الغواية، بكل من تحمل من حناديس، فالشفوف -مجرد الشفوف- على النيران غواية، ما ينبغي للمومن الاقتراب منها. وعندما تحافظ الشاعرة على الدلالة المعجمية للفظ «الغواية»، فلأن تلك الدلالة هنا معتصمة بما يخضع له اللفظ من معان، اكتسبها من المرجعية القرآنية التي لا تجعل الغواية إلا قرينة الشيطان، {ومن يكن الشيطان له قرينا فساء قرينا}(النساء).
أوما آن لأدباء الهداية أن يتعظوا؟
إنه ما من فضل لنا في اتباع أهل الضلالة والغواية حتى ولو كان ذلك باسم التجديد والمعاصرة. وإنما الفضل كل الفضل في أن يسلك الأدباء مسلكا خاصا بهم، وأن يصطنعوا لأنفسهم مصطلحات خاصة بهم في النقد والأدب، فإن لم يفعلوا بقوا عالة على من سواهم، وأضلوا من يتبعهم من الأمة التي ترجو من الأدباء أن يكونوا قادة وسادة، لا تبّعا ولا عبيدا.
يلتقطها د. حسن الأمراني