نترك الفراشة قليلا ونولي وجهنا شطر سونيتات رمضان. والسونيتة فن شعري، يعتمد إيقاعا خاصا،اشتهر في بريطانيا وفرنسا بخاصة، ومن أشهر السونيتات سونيتات شكسبير. ولكن السونيتات التي نشرع في وقفتنا معها اليوم هي سونيتات متميزة، هي متميزة بموضوعها، إذ موضوعها رمضان والصيام، ومتميزة أيضا لأنها لشاعر متميز، هو الشاعر الأمريكي المسلم دانييل مور، أو عبد الحي مور.
وفي هذه الحلقة لن أتحدث كثيرا، إذ سأكتفي بأن آخذ بيد القارئ معي إلى جزر إيمانية دخلتها فأردت أن يشترك معي في بهائها الإيماني، ولذلك سأترك الحديث إما لدانييل مور نفسه، وإما لأولئك الذين سعوا -بإخلاص- إلى أن يقربوا هذا الشاعر المؤمن إلى قراء العربية، وعلى رأسهم الناقد السوري منير العكش. ومنير العكش -لمن لا يعرفه- ناقد شغل الناس في سبعينيات القرن الماضي، ولاسيما الحوارات التي أجراها مع عدد من أعلام الشعر العربي المعاصر، على اختلاف مناحيهم الفنية، وكان من بينهم بدوي الجبل. وكان ينشر تلك الحوارات في مجلة (مواقف) التي كان يصدرها أدونيس. حتى كان يوم نشر فيه حوارا مع نزار قباني، وكان في مشروعه أن يجمع تلك الحوارات ضمن عمل متكامل. ولكن نزاراً سرعان ما نشر ذلك الحوار ضمن كتاب مستقل سماه: (عن الشعر والجنس والثورة)، فاشتعلت معركة بين الرجلين، وانشغلت الصحافية الثقافية في العالم العربي -ومنها العلم الثقافي المغربية- بآثار تلك المعركة… وتوقف مشروع العكش.
ولكن هذا الناقد الناشط ما لبث أن طلع علينا من ضفة أخرى… من أمريكا، حيث استأنف نشاطه من جهة، ووسعه من جهة أخرى، ولم يعد وقفا على الأعمال الأدبية، بل تجاوزه إلى الدراسات الحضارية، حيث ترجم عددا من الدراسات التي تهم العالم العربي، مما يصدر في أمريكا، ومنه دراسة عنوانها: «عفوا كولومبس.. لست مكتشف أمريكا»، وفيها تثبت الباحثة الأمريكية، مؤلفة الكتاب، أن المسلمين هم الذين اكتشفوا أمريكا قبل وصول كولومبس بزمن طويل، وأن النقوش الإسلامية التي ما تزال قائمة حتى الآن دالة على ذلك. وهو أمر أثبته أستاذنا محمد نجيب البهبيتي في كتابه: (المعلقة العربية الأولى)، ولكن الناس لم يأخذوا ما قال مأخذ الجد، ومنهم من اتهمه بالجنون أو الهذيان. ولعله ليس من باب الاستطراد البعيد أن نقول إن الدكتور علي بن المنتصر الكتاني، رحمه الله تعالى، أثبت بما لا يدع مجالا للشك أن المسلمين هم مكتشفو أمريكا.(وهذا موضوع قد نعود إليه في حلقة أخرى لأهميته).
ونعود إلى موضوعنا:
وُلِدَ الشاعر والكاتب الأمريكي دانيال مور في عام 1940م، بمدينة أوكلاند في ولاية كاليفورنيا الأمريكية. ويُعدُّ دانيال مور من أبرز شعراء الستينيات، وقد اعتنق دانيال الديانة الإسلامية في عام 1970م، واختار لنفسه اسم عبد الحيِّ.
في أواخر الستينيات وأثناء زيارة دانيال مور للمغرب تعرَّف على فضيلة الشيخ محمد بن الحبيب الفاسي الذي دعاه للإسلام، وانشرح قلب دانيال بدعوة الفاسي ليعود إلى الولايات المتحدة مسلمًا يتوهج شعره بأسمى رُوحَانية عرفها الشعر الإنجليزي المعاصر.
يقول منير العكش:
في أواخر الستينيات، حين كانت «ثورة الشباب» براكين من الإبداع والرومانسيات وأحلام تغيير العالم، كنت حديث العهد بالهجرة إلى بيروت، مكسوراً مع كل المكسورين بالهزيمة واليأس والعسكر وخوف المنافي وقلق الإبادات، حالماً مع كل الحالمين بيوم أوسع أفقاً من هذا اليوم، ومصير أقل بشاعة من هذا المصير.
وكان دانيال مور ولورنس فرلنغيتي وألن غينزبرغ ومايكل مكلور ونانسي بيترز هناك على سيف المحيط الهادي في أقصى غرب الموت واليانكية المتوحشة جزراً من الأمل في بحر يصخب بالكراهية والجشع وتاريخ الإبادات.
لم يخطر ببالي وشلالات الضوء يومها تهدر من لغة الشباب العاصف في شوارع العالم، من غسان كنفاني في بيروت إلى دانيال مور في سان فرانسيسكو أنني – بعد أكثر من عقدين – سأودع قافلة أصدقائي الذين تطايرت أشلاؤهم مثل أسراب الحمام في سمائنا العبثية واستشهدوا مجاناً لألتقي هنا على الشاطئ الآخر بهؤلاء الحالمين الأبديين بثورة الشباب وقد تساقطت معظم أسنانهم: غينزبرغ ينشد «الهيكل العظمي» للزمان، ومور يعتمر الطربوش المغربي الأحمر تحت تمثال الحرية، وعبثاً ينفخ في جثتها الروح.
منذ أن وصلت إلى «العالم الجديد» أدركت أننا نحن وضحايا كولومبوس في هاوية واحدة، وأن هذه الأميركا متعددة ولا بد من اختيار ما يمد ويخصب زمن الحلم. وكان لابد من دانيال مور وبقية الطيور التي ما تزال تغني في هذه الغابة المحترقة.
وكانت مجلة (جسور) هي البداية وفوهة الضوء، إذ لم يكد يصدر عددها الأول حتى التقيت بدانيال مور ولورنس فرلنغيتي ونانسي بيترز وجون هول ومايكل مكلور وجفري مانو وهذا النبض الدافئ الذي يخفق به قلب كل ما هو إنساني نبيل ومبدع في أميركا.
وها هو دانيال مور اليوم واحد من أسرة (جسور) يسهر الليالي في مراجعة كل ما ينشر فيها من شعر ونصوص إبداعية، ويعمل معي على اختيار وترجمة كل ما يقدم وجهاً مشرقاً لثقافتنا العربية الإسلامية في هذا العالم الذي لا يرى فينا إلا صورة الذئب. وها هو مور للمرة الأولى يتعرف على وجهه في المرآة.. بعد أن تجهمت في وجهه طويلاً فظن أن غربته أبدية كما يصور ذلك في قصيدة «المرآة» المترجمة.
في الستينيات كان مور من أبرز شعراء «بيركلي» الحالمة بأميركا أكثر إنسانية وعالم أكثر عدلاً. وتعتبر دواوينه «رؤيا الفجر» و«القلب المحترق: مرثاة لموتى الحرب» و«جسد النور الأسود» و«حكمة المحارب» ثورة في حركة الشعر الأمريكي الحديث. كذلك كانت مسرحياته «اللوتس العائم» و«الحيتان المدماة» و«قيامة بليس» التي عرضت لسنوات في مسرحه الذي أنشأه هناك في قلب كاليفورنيا مدرسة إبداعية وإنسانية. لكن الستينيات لم تمض على دانيال مور حتى زار المغرب وتعرف على الشيخ محمد بن الحبيب الفاسي ليعود إلى بيركلي مسلماً يتوهج شعره بأسمى روحانية عرفها الشعر الإنجليزي المعاصر.
وللحديث بقية إن شاء الله تعالى.
يلتقطها د. حسن الأمراني