كانت لي جولة عبر أروقة السفينة ودروبها وممراتها ذات ليل حالك السواد، متطاير الرماد، لم أكد أصعد عبر سلم السفينة المتهرئ إلا بشق النفس، لقد كانت الرياح تعوي، وتزمجر بوتيرة أعلى من مألوفها في الأيام والليالي الخاليات، كانت السفينة في حالة اضطراب وارتجاج شديدين، حتى إنني شعرت بالغثيان أثناء صعودي درجات السلم المنخورة بالصدأ، وكدت أن أسقط لولا لطف الله العلي القدير، الذي ألهمني أن أتمسك بأحد القضبان الحديدية الرخوة الذي كان هو أيضا محفورا بالصدأ، ومحفوفا في بعض جوانبه بما يشبه الشفرات الحادة، فتعرضت جراء ذلك لجراح في يدي التي سالت منها كمية من الدم، تركت آثارها على درجات السلم، فلم يكف الجرح عن السيلان إلا بعد لأي، عندما تفضل بعض الركاب بإمدادي بطاقيته القطنية، إذ لم يكن هناك ما تضمد به الجروح، وهو يبارك لي عدم السقوط على رأسي، ويؤاخذني في عتاب خفيف، على القيام بزيارتي للسفينة في هذا الظرف الصعب، اقترب مني أكثر، ومشينا سويا في اتجاه الشرفة المكشوفة المطلة على البحر، التي كانت ترتطم بها بقايا الأمواج المتكسرة، فبدت لنا المخاطر المحدقة بالسفينة وأهلها في ذلك الليل البهيم.
كانت ريح شمالية باردة تصفع وجوهنا المتيبسة، وملوحة المياه المتطايرة تنفذ إلى أفواهنا وحلوقنا، ونحن نتحدث عن المنعطف الحرج الذي كنا نمر به جميعا في تلك الليلة المخيفة، لم يكن لي بصاحبي سابق معرفة، ولكن الجرح الطارئ الذي ألم بي جراء القضيب الحديدي الصدئ، قد فتح الباب بيننا لتناول جراح أهل السفينة الذين كان بعضهم يموج في بعض، جراء العاصفة الهوجاء التي ضربتها في تلك الليلة. كان صاحبي يفضل أن يبقى رابضا في المكان المخصص له، متحسبا لأي تفاقم للوضع جراء ما كان يجري، خشية أن تعاوده حالة للصداع المفضي إلى الغيبوبة، والتي كانت تصيبه بشكل دوري كلما شهد البحر مثل ذلك الاضطراب، الذي تصبح معه جميع السفن في حالة طوارئ غير معلنة، ولكنني أقنعته بأن نقوم بطواف عبر أطراف السفينة وجوانبها، من الأمام إلى الخلف، ومن الأعلى إلى الأسفل، فذلك أدعى إلى أن نطرد شحنة الخوف التي كان المكوث في نقطة واحدة يزيدها تضخما واتساعا، وإلى أن نكون أبطالا نقدم إلى أهل السفينة ما نستطيع ، فذلك خير لنا وأهدى من أن نستسلم للموت البطيء.
نزلنا توا إلى أسفل السفينة، فهالنا ما شاهدناه من مناظر: أطفال يتضاغون من فرط الجوع، وأمهاتهم يحاولن عبثا تهدئتهم وإسكاتهم، ألقينا إليهم بعض ما كنا حملناه معنا من أرغفة، فنزل ذلك بردا وسلاما على أنفسهن المكروبة، وعادت البسمة إلى ثغور الصبية الأبرياء، فأغرقننا بسيل من الثناء والدعاء…
توغلنا قليلا، قريبا من ذلك الموضع، فألفينا طائفة من الشيوخ والعجائز، أشبه ما يكونون بالهياكل العظمية التي يحسبها الناظر لأول مرة هامدة ميتة، لولا ما ينطلق منها من أنين خافت، مكثنا عندهم بعض الوقت، فسألناهم أن نقضي حاجتهم بما نستطيع، فرغب إلينا من كان بهم رمق من قوة أن ندعو لهم بالموت ليستريحوا من هذا الموت البطيء، فودعناهم وأعيننا تفيض من الدمع حزنا أن لا نجد ما نسعفهم به في تلك اللحظة الكئيبة…
انصرفنا إلى زاوية أخرى على مقربة من هؤلاء الشيوخ العجاف، فوجدنا طائفة من الشباب في ثياب رثة وأوضاع غير محمودة، فظهر لنا مكانهم وقد امتلأ بالثقوب، وبعض أخشاب السفينة وقد نزعوها من أماكنها، فكلمناهم في ذلك، فراحوا يرشقوننا بألفاظ نابية، ويتذرعون بأنهم أحرار، وبأن من حقهم أن يصنعوا في نصيبهم ما يشاءون، ثم بدا لنا أن نجلس إليهم بعض الوقت، بعد أن أنسوا بنا إذ قدمنا لهم النصيحة الصادقة، واعتذروا إلينا عما بدر منهم تجاهنا، فقصوا علينا قصة حياتهم، فأدركنا أنهم قد تعرضوا لاضطهاد شنيع ممن هم في أعلى السفينة، حينما كانوا يسألونهم العون على أحوالهم، وقضاء حاجاتهم، فكانوا يردون بكل قسوة على أعقابهم، فقرروا أن يمارسوا مهنة الحفر في السفينة، إلى أن يصبح الممر سالكا أمامهم إلى أعلاها. فقررنا على الفور أن نبحث عن صيغ لإنقاذ تلك الطاقات المعطلة وبعث جذوتها من جديد لتكون للسفينة قوة وسندا.
ودعنا الشبيبة المضيعة على أمل الخروج بها من وضعها المأساوي الكئيب، وعندما صعدنا إلى أعلى السفينة خشينا على أنفسنا من الدوار والسقوط، رغم تناقص حدة اضطرابها بسبب تناقص حدة العاصفة، لأن هول ما شاهدناه كان يفت في عضدنا، ويلهب أكبادنا، فهل يعقل أن تترك هذه السفينة نهبا لأوضاع البؤس التي هي عليه، «اللهم إن هذا لمنكر»!!
رددنا هذه العبارة الخالدة بأصوات عالية مرات عديدة ونحن ننتقل إلى أعلى السفينة، حاول من كانوا هناك منعنا، ولكننا بعد حوار معهم حققنا مرادنا.
هناك في زاوية قصية وجدنا أناسا يلبسون ثيابا فاخرة رجالا ونساء، وأمامهم موائد عليها ما لذ وطاب، وحولهم أطفال منعمون يلعبون ويلهون بأجمل الألعاب، فذكرت من كانوا في الأسفل يتضاغون بالجوع، فقلت لصاحبي: من هنا نؤتى، من هنا تخرق السفينة وتجتاحها المياه!!
مضينا إلى زاوية أخرى والألم يعتصرنا، فوقع بصرنا على أناس يشبهون الديكة، يهمهمون بشفاههم بكلام غير مسموع، وهم يتمايلون يمنة ويسرة، وخلفا وأماما، وبين أيديهم أطباق من الحلوى مختلفة الأشكال، فأشرت لأحدهم بالرغبة في تكليمه، فاستمر في همهمته مع القوم إلى وقت غير يسير، وبعدها جذبته بعيدا عن القوم، وأشرت إليه بأن هناك في الأسفل أناسا يستحقون أن يزاروا ويوصلوا، فهمهم لي بكلام غير مفهوم، ثم عاد إلى الالتحاق بحلقته. ثم انتقلنا إلى مكان آخر في الطرف المقابل، فما أن وصلنا حتى صكت آذاننا أمواج من الصخب والضجيج، وخدشت أبصارنا مناظر مروعة تثير القرف والغثيان، وتولد الغضب والاستهجان: منصات هنا وهناك، يتحلق حولها أكوام من الذباب، رجعنا على أعقابنا، وقد اجتاحنا الغضب العارم إلى حلقة الديكة المهمهمين، لنستعين بهم في معالجة الوضع وصنع المعروف، فلم يحركوا ساكنا.
أخذت بيد صاحبي، ورحنا نذرع أطراف السفينة، التي كانت تضطرب وتتمايل كالسكران، ونسأل الله العلي القدير اللطف، ونردد قول الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام : «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ لَكُمْ: مُرُوا بِالْمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، قَبْلَ أَنْ تَدْعُونِي فَلَا أُجِيبَكُمْ، وَتَسْأَلُونِي فَلَا أُعْطِيَكُمْ، وَتَسْتَنْصِرُونِي فَلَا أَنْصُرَكُم».
د. عبد المجيد بنمسعود