لقد ألِفْتُ منذ عقود من الزمن أن أسيح شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا، عبر بوابات الوطن وحصونه، ومساحاته الشاسعة والمترامية، في حواضره وبواديه، وجباله وسهوله، ناشدا صلة الرحم، طارقا كل الأبواب، سائلا عن الأهل والأحباب، وما صاروا إليه من أحوال، و حل بهم من صروف البلاء، كنت أسأل عنهم واحدا واحدا، أطعم جائعهم، وأكسو عريانهم، وأعود مريضهم، غير أن أشد ما كان يؤرق نفسي ويستأثر بهمي بشكل خاص، هو ما كان يتناهى إلى سمعي من أخبار غير سارة، عن سيدة فاضلة، لها علي فضل كبير، فهي بمثابة أمي الثانية التي أودعتني أسرارا بعيدة الغور، وربطت نفسي بمنابع الحكمة الخالدة، وكم كان لها من أيادٍ بيضاء على الصغير والكبير، وتربى على يديها وترعرع في أحضانها ومهادها خلق كثير، كان منهم العارف للجميل، والعاق الذي يأكل الطعام ويكسر الماعون. لقد ورثتني تلك الأخبار هما عارما ونكدا قاتما لما كشفت عنه من صنوف العقوق والنكران، وألوان الإهمال والإيذاء، فما كان مني إلا أن أسرعت الخطى قاصدا أحد مقرات إقامتها القديمة التي أبت إلا أن تقيم فيه في هذه الفترات العصيبة التي تجتازها، رغم ما يعتري جدرانه من اهتراء، وسقوفه من تصدع واهتزاز، طرقت الباب ويداي ترتجفان، وقلبي شديد الخفقان، لما أضمرته نفسي من وحشة النأي وألم الفراق، وصادق الحنين والأشواق، وتحسبا لما خشيته من سوء على أمي الثانية التي لقحتني بلقاح الحب والوفاء. فما أن انكشف الباب الخشبي القديم عن محياها الكئيب، حتى استقبلتني بالأحضان، وغمرتني بحنانها المعهود، وانهمرت عيناها بالدمع الهتون، الذي ما فتئ أن تحول إلى نشيج ونحيب، فأكرمت وفادتي بما عندها من تمر وحليب، وبدأت تقص علي ما مورس عليها من عدوان، وما تجرعته من مر الذل والهوان، مما تنكسف له القلوب، ويشيب لهوله الولدان:
اسمع يا فلذة كبدي ويا ولدي الحبيب، لقد مر على أمكم من البلاء ما تنهد له الجبال، وتقر له أعين الأنذال، لقد قاتلت وجالدت مجالدة الفرسان المغاوير لأحافظ على ملكي الباذخ الفسيح الأرجاء، ومحميتي الخصيبة المعطاء، التي كانت ترتع فيها النسور والأسود والغزلان، وتأنس في جنباتها وأفيائها فراخ الطيور المتعددة الأصناف والألوان، وتقفز بين شعابها وتحلق في أمان، عبر الجداول والأنهار، وبين الغصون والأفنان، وتسرح في حقولها وبين أشجارها وجبالها أسراب النحل الكريمة، تتغذى على أعشابها البرية النقية ، وتمتص من أزهارها طيب الرحيق، كان ذلك يا ولدي في الزمن السحيق، الذي كان فيه الصديق لصديقه نعم الصديق، وكان سلطان الحق لرواد الطريق نعم الشعار ونعم الرفيق، كان القرآن رائدي لمعالي الأمور، ومنصة العروج نحو مواطن السعادة والحبور، وسلما ذهبيا يرتقى به سامق الدرجات والذرى، وكانت معالم الطريق ومصابيح الهدى لذلك المعراج، هي السيرة السنة، لحبيب الرحمن خير الورى. عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
ثم توقفت الأم للحظات، وقد خنقتها العبرات، ثم استأنفت والدمع يسيل مدرارا على وجهها الشاحب الكئيب: كان ذلك يا فلذة كبدي وثمرة فؤادي في الزمن الجميل، حين كان يستعصي على مردة الشياطين الدخول إلى محميتي الطاهرة، بل كانوا لا يجسرون حتى على مجرد الاقتراب من حماها المهيب، إشفاقا على أنفسهم من جلال وهيبة المكان، وخشية من أن تصيبهم نيران الحراس الأشاوس الشجعان.
أما اليوم فها أنت ترى بأم عينك يا بني ما طال محميتي العتيدة من مظاهر الخراب، فعششت فيها البومة واستباحها الغراب، وبعد أن حوصرت فيها الأسود والنسور والغزلان، أصبحت ثروتها نهبا للكلاب والضباع والذئاب، وصوحت أشجارها، وهاجرت أطيارها وجففت أنهارها، وحطمت سفنها وقلاعها.
لقد زعموا يا بني أنهم أرادوا مصلحتي وعافيتي، وراحوا بعد أن وصموني بالاعتلال، يجلبون إلي من زعموا أنهم مختصون في كل مرض عضال، فأرغموني على تناول ما أعدوه لي من وصفات ما أنزل الله بها من سلطان، فصرت من جرائها كما ترى، مفككة العرى ممزقة الأوصال، أهذي بالليل والنهار، وأشكو للخبير المتعال، ولطالما رفعت عقيرتي يا ولدي الحبيب بالشكوى والصراخ، ما رددت صداه الجبال والبطاح، أن أرجعوني إلى أصولي، وأبعدوا عني الأطباء المزيفين والخبراء الملفقين، فقد حقنوا جسمي ، بكل سم زعاف، وبكل داء براح، واءتوني بأحبائي الذين يفهمون لغتي ويعرفون علتي، فعندهم دوائي وشفاء غلتي، ولكنهم أصموا يا بني آذانهم عن صراخي وشكاتي، وراحوا يتلذذون بأوجاعي وأناتي، ويصرون بكل صلف واستكبار، أن لديهم خلاصي ونجاتي. فها أنت ترى يا ولدي الحبيب ما أصابني من هزال، نتيجة فقر الدم الذي يمتص ما تبقى من قوتي، ويلتهم لحمي ويستنزف عظامي، فأنا مشرفة على الهلاك، رغم تبجح المتبجحين، بأنني أتماثل للشفاء، فهل بعد هذا الزور يا ولدي من زور، وهل بعد هذا الهراء من هراء؟ إنه لا شفاء لي إلا بالقرآن، إيتوني بماء القرآن، إيتوني بماء القرآن، إيتوني بماء القرآن!! ألا هل بلغت اللهم فاشهد !!
قالت أمنا المظلومة هذا الكلام، وهي تجيل بصرها في معالم الخراب الذي أصاب المحمية المنكوبة، وطفق جسدها يهتز اهتزازا غريبا، ويرتعش ارتعاشة المذبوح المغدور، ثم خرت مغشيا عليها.
حضرت سيارة الإسعاف بعد ساعة من الوقت، نقلوا الأم المنكوبة إلى مصلحة المستعجلات، لتنتظر دورها مع أخواتها المنكوبات، لبثت وقتا طويلا في الانتظار، والحمى تأكل أحشاءها وتخترق عظامها، وعندما حظر الطبيب، جس نبضها وقاس حرارتها، فلم تزد وصفته لها عن مسكنات، وعما وصف لها في سابق الأزمات. قبلت جبينها وأضفت دموعي إلى دموعها، وسألت الواحد القهار، مفرج الكروب أن يفرج كربها، ورحت أتلو قوله سبحانه وتعالى: {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو على كل شيء قدير. وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير}(الأنعام : 17 – 18) وقوله عز من قائل: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ(آل عمران : 26 – 27).
د. عبد المجيد بنمسعود