افتتاحية – من رُهاب الامتحان إلى إرهاب الغش في الامتحان!!


لا يخفى على أحد ما للامتحانات من أثر في تعزيز المكتسبات، وتثبيت المعارف، وشحذ الأذهان، وبث روح الاجتهاد والتنافس العلمي الشريف بين المتبارين..
ولا يخفى كذلك ما للاختبارات من أثر في تكوين النخبة والصفوة العلمية المختارة، ومن إعداد الطاقات العلمية المبدعة في جميع المجالات والتخصصات، وتعرف مختلف المواهب والمؤهلات..
ولا يخفى ما للتقويمات بمختلف أشكالها وعلى رأسها التقويمات الإشهادية من قيمة في وضع الأصبع على مواطن الزلل والخلل في مكونات المنظومة التعليمية كاملة، وسبل تصحيحها وإقامتها على الجادّة.
وإن الدول الجادة في سيرها نحو التقدم والحريصة على المصالح العليا للبلاد لتولي للمسألة التعليمية أهمية بالغة، ولعملية تقويم المعلومات وطرقها أهمية أبلغ. فتجعلها في بؤرة المنظومة التعليمية وجزءاً لا يتجزأ من المصالح العليا، فبها يستقيم سير البلاد وتصلح معايش العباد، وبها تُكشف مواطن الصحة والاعتلال في السير وأسبابهما، لذلك فالامتحانات والاختبارات وتقويم المعلومات ليست مجرد أسئلة يمتحن بها التلميذ ويُعرَف بها مستواه فحسب وإنما تمتحن بها المنظومة التعليمية ككل، والاختيارات الكبرى للأمة، وتختبر فيها جهود الجميع، كل من موقعه وبحسب مستواه وحجمه.
لكن رغم هذه المكانة والمنزلة التي يقر بهما جميع العقلاء فإن نظام الامتحانات يشوبه الكثير من مظاهر الاعتلال والاختلال، ومظاهر التشويه والاحتيال.
فلم تشهد حلبة للتباري في التاريخ غشا مثلما تشهده ساحة التباري العلمي والمعرفي في أيامنا هذه في الامتحانات: غش بأوسع معانيه وأصرحها وأفصحها، استلاب جماعي لدى المترشحين والمترشحات وأولياء الأمور، تواطؤ مغرض على التسريب السري والعلني، بأحدث الأساليب والمعدات التقنية وأكثرها تطوراً لوأد الطاقات وشلّ الطموحات ونحر الاجتهادات وهدر الحقوق والعدالة…
غش لم يتسلح بالتكنولوجيا فحسب وإنما بالترهيب والعدوان: ترهيب للدولة والمواطن المسؤول واعتداء على الحق في تكافؤ الفرص وتحريف لمعناه، وعدوان على أخلاق الأمانة، والمسؤولية الوطنية والإيمانية، وعدوان على سمعة البلاد وقيمتها العلمية والخلقية !!!
غش نقل البلاد والعباد من عهد الخوف من الامتحان الذي كان يقال فيه: “في الامتحان يُعَز المرء أو يُهان”، إلى عهد السيف المُصْلَت للغش في الامتحان والتخويف به ومنه حتى أصبح يقال عند المستفيدين منه: “بالغش يُعَزُّ المرء ولا يُهان” !!
كنا قديما نخاف من الامتحان وكثيرا ما نصاب بالرُّهاب ، أما اليوم فأصبح كثير ممّن لا يزال يرابط في قلعة الأخلاق والوطنية، والإيمان بمبدأ: “من غشنا فليس منا”، يخاف من أن تُمحَقَ جهوده بغش الآخرين في الامتحان، وما يترتب عن ذلك كله من رعب وتهديد وعنف!! فصار حاله يقول: “بغش الآخرين في الامتحان نُذَلّ ونُهان”!! فانتقلنا حقيقةً من رُهاب الامتحان إلى إرهاب الغش في الامتحان!!
فهذا الخلل والداء الوبيل فأين الدواء الأصيل؟
< أولا : كل مدرك لحقيقة مسار التعليم في بلادنا يعلم أن قطار سكّته انطلق منحرفا عن مساره منذ بداية الاستقلال، وازداد انحرافا وانجرافا إلى يومنا هذا، وتمثل هذا الانحراف في الزيغ عن هدايات الإسلام ونظامه التعليمي الذي يبني الإنسان أخلاقا قبل أن يحشوه معارف، ويربيه على المسؤولية والأمانة قبل أن يربيه على حب الخبز والمنصب والصراع عليهما، ومن ثم يغرس فيه منذ نشأته الأولى قيَم التمييز بين الوسائل والغايات. لذلك فلا إصلاح لمنظومة التعليم من غير تبنّي هذه القيم الخلقية التي تغرس في الناشئة الأمانة والصدق واحترام الحق الشرعي للآخرين، فالأمم الناهضة بتعليمها المتقدمة بتربيتها تحرص على غرس مثل هذه القيم في ناشئتها، والتي هي قيم فطرية بطبيعة الحال.

< ثانيا : بناءً على الانحراف السابق فقَدَ تعليمنا البوصلة الأخلاقية الموجهة للسلوك تدريجيا، وفقدت المؤسسة التعليمية دورها التربوي والتوجيهي بنِسَبٍ عالية، ولذلك فلا يكاد يرجى القضاء على الغش ما لم تستعد المؤسسة التعليمية رسالتها الأخلاقية والتربوية على القيم الخلقية والمُثل الإسلامية، ليس في المنظومة التعليمية وحدها ولكن أيضا في سائر المنظومات والقطاعات.

< ثالثا : يصعب القضاء على الغش في قطاع التلاميذ والطلبة من غير القضاء على الغش داخل المجتمع بمختلف دوائره ومستوياته وأحجامه، تصوراً وتصرفا، لأن التلميذ جزءٌ من المجتمع، يحمل اعتقادات عن الغش تلقاها من المجتمع؛ فكم من الآباء تدفعهم العاطفة لتعليم أبنائهم الغش أو تشجيعهم عليه أو تبريره لهم..، وكم من المسؤولين تدفعهم أسباب عديدة للمساعدة على الغش، وكم من أفراد يدفعهم التمرد على المجتمع والانتقام منه إلى التسريب والتحريض والترويج لثقافة الغش…

< رابعا : متى نعي أن لنا في تربيتنا الإسلامية وقيمنا المغربية الأصيلة الدواء الناجع، وأن هذه التربية ينبغي أن تتشبع بها الأسرة أولاً ثم بعد ذلك المدرسة والإعلام والمجتمع وسائر قطاعات الأمّة، فلا مَخرج لنا مما نحن فيه جزءًا أو كلًّا إلا بالإسلام وبالعمل بتوجيهاته في كل المَجالات والمستويات ؟!

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>