وقع مجموعة من العلماء والمثقفين في الآونة الأخيرة بيانا أطلقوا عليه نداء من أجل اللغة العربية ، وكان من الموقعين الدكتور مصطفى بنحمزة عضو المجلس العلمي الأعلى، ورؤساء المجالس العلمية ومثقفون وفاعلون سياسيون، ونشطاء من المجتمع المدني، ومما جاء فيه :
تعيشُ اللغة العربية وضعا غير طبيعي في المجال التداولي المغربي، بسبب عدد من الالتباسات التي صنعتها تراكمات امتدت منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، وتداخلت العوامل الثقافية والسياسية والاجتماعية في تشكيل حالة لغوية مهددة ليس لوجود اللغة العربية باعتبارها أداة تواصل فقط، بل لوجود المغرب ـــــ الدولة الذي ارتضى العربية لغة للمعرفة والتواصل الرسمي والمؤسساتي.
ولقد قاومت النخبة المغربية منذ الاستعمار دعاوى التشظي والتفرقة التي راهن، وما زال يراهن عليها الفكر الاستعماري، مشغولة بهم بعث الوحدة داخل الذات الوطنية. فدعت إلى وحدة لغوية في التعليم، موازية للوحدة السياسية والعقدية، لأن تعدد لغات التعليم في البلد الواحد يضر بتكوين الأبناء ومستقبل الثقافة في الوطن، ولأنه سيؤدي لا محالة إلى فتح المجال للتفكير بطرق متعددة، وترسيخ الاستلاب الثقافي والفكري، وتشويه مقومات الهوية الوطنية. فالنتائج السلبية لا ترتبط فقط بالتلميذ، بل بالشخصية المغربية ككل. لذا ناضلت نخبة الوطن من أجل جعل لغة التعليم هي اللغة العربية، لأن ” العلم إذا أخذته بلغته أخذته، وإذا أخذته بلغة غيرك أخذك”؛ كما قال الحاج بلا فريج . فكان مدخل الاستقلال هو التحرر اللغوي ــــ التربوي والمزايلة عن الثقافة الاستعمارية. وبتعبير المختار السوسي: “وليت شعري لماذا كنا نحرص على الاستقلال إن لم تكن أهدافنا المحافظة على مثلنا العليا المجموعة في أسس ديننا الحنيف والمحافظة على هذه اللغة التي استمات المغاربة كلهم عربهم وبربرهم في جعلها هي اللغة الوحيدة في البلاد؟”. وكان الرهان الدائم هو جعل الإصلاح اللغوي مقدمة ضرورية للتحرر؛ لأن “الأمة التي تتعلم كلها بلغة غير لغتها لا يمكن أن تفكر إلا بفكر أجنبي عنها ” كما قال علال الفاسي. فاختيارُ لغة التعليم جزء من تصور شامل للتنمية بمختلف جوانبها القيمية والمصلحية والهوياتية، والذين يراهنون الآن أو في الماضي على الفرنسية لغة للتدريس هم ممن يتبنى النموذج الذي وضع أسسه الاستعمار لتمدين الأهالي في المستعمرات القديمة/ الجديدة، والقائم على نشر المدارس لتعليم العلوم الحديثة بواسطة لغاتها الأصلية مما يرسخ الاعتقاد بأنَّ مدخل التمدن هو اكتساب المعرفة باللغة الأجنبية.
وقد أثبتت هذه البيانات المتعددة، الصادرة عن نخبة المغرب من سياسيين ومثقفين وعلماء وفاعلين مدنيين، أن استعمال اللغة العربية مطلب وطني أجمعت عليه الأمة منذ الاستقلال، وأنها ترفض أن يظل فكرها محتكراً من لدن لغة أجنبية. وبالرغم من ذلك، مازال الخناق يشتد يوما بعد يوم على اللغة العربية؛ مما دعانا إلى إصدار “نداء من أجل اللغة العربية” تأكيدا على راهنية الدفاع عن الهوية الوطنية ضد كل أنواع الاستلاب، ورفضا لكل محاولات تقزيم الهوية الوطنية أو تغريبها أو تحريفها.
فقد تم إقرار التعريب في أول مشروع تعليمي غداة الاستقلال مؤكدا ضرورة اعتماد اللغة العربية لغة رسمية للتدريس. غير أن الازدواجية ظهرت في أول خطوة تطبيقية حين أقرت اللجنة الملكية لإصلاح التعليم في اجتماعها سنة 1958م تدريس العلوم باللغة الفرنسية، مما خلق لدى التلميذ المغربي ازدواجية بين فضاءين لغويين ــ معرفيين: لغة تسمح باكتساب المعرفة الإنسانية العلمية، ولغة أخــرى لا تسمح بالتعامل إلا مع الأدب والشعر والحكايات والأساطير. وقد ظل هذا التوجه سائداً في جل مشاريع الإصلاح الحكومية المتتالية، ومخططات اللجان والمجالس المستحدثة لإصلاح التعليم. ويبدو ذلك على الخصوص في سيطرة شبه مطلقة للفرنسية بوصفها لغة تدريس للعلوم التجريبية والطبيعية في التعليم الجامعي مقابل تدريسها بالعربية في التعليم الثانوي؛ مما أنتج ارتباكا في مستوى التحصيل العلمي وأدى إلى ضعف الإبداع والجودة والاستيعاب والتمكن في المدرسة الوطنية.
وبعد التعديل الدستوري ليوليوز2011، وما تلاه من مبادرات رامية إلى النهوض باللغة العربية وحمايتها وتنميتها، في تناغم تام مع شقيقتها الأمازيغية، وبعد أن اتسعت دائرة الأمل في سياسة لغوية مندمجة تحفظ الهوية اللغوية للمغاربة، وتنفتح على اللغات الأكثر تداولا في العالم، وبدأ الحديث عن إصلاح التعليم المغربي من خلال تشخيص لواقعه، واستشراف لسبل النهوض به من خلال المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، قفزت بعض الأصوات لطرح قضايا وهمية ومشاريع تدليسية، غايتها إجهاض الإصلاح التعليمي المنشود وعرقلة أي محاولة للنهوض باللغات الوطنية، وخلفياتها حماية مواقع الامتياز اللغوي الذي تحظى به اللغة الاستعمارية ببلادنا، في مختلف المجالات والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية، من خلال تغليط الرأي العام بطرح أجوبة تبسيطية لانشغالات حقيقية، أو تقديم أجوبة غير واقعية عن أسئلة غير مطروحة، وهو ما يتناقض مع ثوابت الدستور، ومقومات الهوية والحضارة المغربيتين.
لذلك فإن علماء المغرب ومثقفيه، ومن خلال متابعتهم للهجوم على اللغة العربية والهوية المغربية، يرون أن من واجبهم الوطني والحضاري، بمناسبة الحوار المفتوح حول سياسة التعليم ومستقبله في المغرب، تسجيل ما يلي:
< إن حضور اللغة العربية في المغرب بوصفها مكونًا من مكونات الهوية الوطنية ورمزا للوحدة الحضارية للشعب المغربي وحاضنة لفكره وثقافته وإبداعه، هو حضور ملازم لمفاهيم الانتماء والسيادة، وأي اعتداء على مكانتها الرمزية والمادية هو اعتداء على السيادة الوطنية.
< الإشادة بالمقاربة الدستورية والتوافق الوطني الذي أنجز سياسة لغوية تعتز بالعربية التي “تظل اللغة الرسمية للمغرب” – إن إشكال لغة التدريس لا ينبغي أن يطرح من خلال الوصف العرضي، بل من خلال الأسئلة الحقيقية. فالعربية عانت لعقود من عراقيل وعقبات أثرت على موقعها الوظيفي ودورها سواء من حيث المقررات أو المناهج أو الموارد المالية والبشرية وتقنيات التدريس.
< إن مدخل التنمية المنشود هو اللغة العربية. فليست هناك دولة متقدمة واحدة تدرس بلغة أجنبية. فالدول الأوروبية والأمريكية، وكذلك المجموعة الأسيوية التي تستخدم فقط اللغات الوطنية هي الدول المتقدمة. أما الدول التي تدرس بلغة المستعمر، أو يوجد بها تعليم مزدوج، فيشهد واقعها الاقتصادي أنها ليست متقدمة.
< إن إدارة الوضع اللغوي لصالح اللغة العربية أمر موضوعي وحتمي، لا يمكن تصور بديل عقلاني عنه، لا في اللغة الأجنبية، ولا في العاميات. كما أن التجارب اللغوية تبرز أهمية القرار السياسي الواضح الذي يترجم في خطط وتشريعات تروم النهوض باللغة العربية. لذا ندعو الهيئات التشريعية والتنفيذية إلى إصدار قانون حماية اللغة العربية، وتنمية استعمالها، وإخراج “أكاديمية محمد السادس للغة العربية” إلى الوجود، وتمكينها من الشروط المادية والمعنوية.