من الـمنهج النبوي في ترسيخ ثقافة التعاون وسلوك الـمحبة بين أفراد الـمجتمع الإسلامي(1)


عن أبي هريرة ] قال : قال رسول الله [ : «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة،وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله، لم يسرع به نسبه»(رواه مسلم)

إن المتأمل في معاني هذا الحديث يجده يعالج مشاكل اجتماعية عويصة يعاني منها جل أفراد المجتمع، فإذا ما تم القضاء عليها أو التقليص من حدتها، كفي المجتمع المسلم شرا كثيرا، وقد لخص الحبيب المصطفى طرق العلاج وجرعة الشفاء في أمور ثلاثة :
أولها: يتجلى في قوله [ : «من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة». الكرب: الحزن والغم الذي يأخذ بالنفس. فالكربة إذن : هي الشدة العظيمة التي توقع صاحبها في الكرب، وتنفيسها أن يخفف عنه منها، والتفريج أعظم من ذلك، وهو أن يزيل عنه الكربة، فتفرج عنه كربته، ويزول همه وغمه، فالجزاء من جنس العمل، لكن في يوم هو أحوج إلى هذا التنفيس من الدنيا، لهذا كان الثواب في الآخرة.
ففي حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي [ قال : تحشرون حفاة عراة غرلا، قالت : فقلت : يا رسول الله، الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ؟ قال : الأمر أشد من أن يهمهم ذلك".
وفي حديث أبي هريرة ] عن النبي [ قال : «يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعا، ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم» ولفظه للبخاري. قال ابن رجب: «كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ»، ولم يقل : من كُرب الدُّنيا والآخرة، لأن كُرَبَ الدنيا بالنسبة إلى كُرَب الآخرة لا تساوي شيئا، فادخر الله جزاء تنفيس الكُرَبِ عنده، لينفس به كُرَب الآخرة. وفي الحديث سر آخر مكتوم يظهر بطريق اللازم للملزوم، وذلك أن فيه وعداً بإخبار الصادق: أن من نفس الكربة عن المسلم يختم له بخير، ويموت على الإسلام، ففي الحديث إشارة إلى بشارة تضمنتها العبارة الواردة.
أما مجالات العمل بهذا الجزء من الحديث؛ فيشمل كل ما يقوم به المسلم من قول أو فعل ليخفف به عن أخيه المسلم الذي يعيش شدة وضيقا، فمن ذلك قضاء دينه، وتخليصه من الأسر، وانتشاله من براثين التشرد، والتكفل بعلاجه، ومساعدته ماديا لإتمام دراسته، وإرشاده إلى الطريق الأصلح للحصول على حق من حقوقه، وتقديم الخدمات اللازمة له في المرافق العمومية بإتقان وإخلاص، فكل هذا وغيره يندرج ضمن تفريج الكرب.
لكن في الواقع يلاحظ أن كثيرا من المسلمين لم يتذوقوا معنى هذا الحديث ؛ إذ أصبح المسلم في بعض المرافق العمومية، يزيد من كرب أخيه المؤمن فتتحول هذه المرافق في الغالب إلى كرب وبلاء ينزل بالمؤمن، نظرا لسوء خدمات بعضها من جهة، وعدم التزام بعضها بالوقت والدقة في إنجاز العمل من جهة ثانية، فبدل أن تيسر أمور المؤمن تجعله يعاني من طول الانتظار وغيره، وقد عم هذا البلاء في كل أرجاء البلاد ولاسيما المستشفيات، والمحاكم، والإدارات العمومية…
ثانيها: قوله [ : «ومن يسر على معسر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة» المعسر نقيض الموسر، وأعسر فهو معسر؛ صار ذا عسرة وقلة ذات يد. والعسر بالضم من الإعسار وهو الضيق، ويفيد في الحديث؛ المعسر هو الذي عليه حق لغيره لا يستطيع أداءه.
وقد دل الحديث على أن الإعسار قد يحصل في الآخرة، وقد وصف الله يوم القيامة بأنه يوم عسير وأنّه على الكافرين غير يسير، فدلَّ على أنَّه يسير على غيرهم، قال تعالى:" وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}(الفرقان : 26). وفي صحيح مسلم : «مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظله»وفي المسند عن ابن عمر ]، عن النبي [، قال : «من أراد أن تستجاب دعوته، أو تكشف كربته، فليفرج عن معسر».
التيسير على المعسر في الدنيا يتحقق بأحد أمرين :
الأمر الأول: أن تنظره إلى ميسرة؛ وهذا مطلوب شرعا قال تعالى في سورة البقرة :{فنظرة إلى ميسرة} الآية 280. وذلك دون استغلاله كما يقع في المؤسسات المالية الحالية، تنظر المعسر لكن بزيادة مبلغ مالي إضافي عليه، فهي تمدد له الأجل لكن مقابل فائدة، وهذا ربا محض، حرام شرعا، ومنكر خلقا، لما فيه من استغلال للمؤمن الضعيف. وأحيانا ينظر الدائن المدين لكن يطلب منه مساعدات أخرى غير مالية، كأن يؤدي له عملا دون مقابل، أو أن يقضي له مصالح مكلفة بدنيا، وهذا مظهر آخر من مظاهر استغلال المدين من طرف الدائن، وهو شبيه بما تفعله البنوك الربوية، فالوسائل اختلفت والمقصد واحد.
الأمر الثاني: أن تعطي للدائن ماله من دين على المدين بشكل مباشر، أو تعطي للمدين المبلغ فيؤديه بنفسه، وهذا أفضل لما فيه من حفظ لكرامة المدين، والشريعة حريصة على أن يكون العطاء على وجه التطوع مستورا لما فيه أيضا من إبعاد المعطي عن شبهة الرياء. ولا شك أن هذا طريق معبد لتوطيد أواصر الأخوة والمحبة بين الأغنياء والفقراء، فيعم الخير ويقل المنكر.
ثالثها: قوله [ :” من ستر مؤمنا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
إن الناس في العمل بهذا التوجيه النبوي على ضربين : أحدهما : من كان مستورا لا يعرف بشيء من المعاصي، فإذا وقعت منه هفوة، أو زلة، فإنه لا يجوز كشفها، لأن ذلك غيبة محرمة. قال الله تعالى: {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة}(النور : 19). والمراد إشاعة الفاحشة على المؤمن المستتر فيما وقع منه، أو اتهم به وهو بريء منه. وفي حديث ابن عباس، عن النبي [، قال : من ستر عورة أخيه المسلم، ستر الله عورته يوم القيامة، ومن كشف عورة أخيه المسلم، كشف الله عورته حتى يفضحه بها في بيته.
ثانيهما: من كان مشتهرا بالمعاصي، معلنا بها لا يبالي بما ارتكب منها، ولا بما قيل له فهذا هو الفاجر المعلن، وليس له غيبة، ومثل هذا لا بأس بالبحث عن أمره لتقام عليه الحدود. ولا يعد هذا تجسسا بل هو من باب تغيير المنكر من قبل أصحاب الاختصاص؛ أي السلطة الشرعية، وهو ما كانت تقوم به وظيفة الحسبة في الدولة الإسلامية، ومما ابتليت به الأمة الإسلامية في هذا العصر، أمران متضادان:
طائفة منهم تطبق هذا الحديث عبر إلغائه وإهماله، فلا تنصح ولا ترشد المسلم العاصي وتتركه وفجوره طالبة البعد عنه وتجنبه، وهي بذلك تخالف قوله [ : «الدين النصيحة». فهذه الطائفة لا تقوم بالتستر المأمور به في الحديث، بل تعيش تطبعا مع المنكر حتى ألِفت نفوسها هذه المناكر، ولا يكاد يسلم من دخول تحت هذه الشريحة إلا فئة قليلة؛ إذ كلنا نشاهد المناكر والمعاصي التي تعلن عبر وسائل الإعلام وتمارس في المرافق العمومية والأماكن العامة، فلا نحتج على ذلك بشكل حضاري، ولا نسمع أصواتنا للجهات المسؤولة، ولا نفضحه عبر الصحف ووسائل الاتصال وقنوات الإعلام المضادة، بل نكتفي بالهروب والاختفاء
أما الطائفة الثانية: فقد كرست نفسها لفضح الناس المستورين بنشر أخبارهم، والتربص بزلاتهم، وقد ساعدهم في ذلك وسائل التكنولوجيا الحديثة والمتطورة، فتم استعمالها بشكل فاحش، مما أدى إلى فضح الناس في بيوتهم عبر التقاط صور لهم مشبوهة ونشرها، مما يدخل تحت إعلان الفاحشة وإظهارها، علما انه لا يوجد في ذلك مصلحة تخدم المجتمع، بل أحيانا هذا السلوك غير المسؤول يشتت الأسر، ويشرد الأطفال، لكون الناشر أو الفاضح تجسس على أخيه المسلم ونشر أخطاءه، وهذا لم يكن في عون العبد بل كان مساعدا للشيطان وجنديا من جنوده، فلن يكون الله تعالى عونا له بل سيفضحه الله في بيته كما جاء عن الحبيب المصطفى [ لأنه تدخل فيما لا يعنيه.
-يتبع-

ذ. محمد البخاري

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>