مع سيرة رسول الله – نحـو تحديد منهجي لعلم السيرة النبوية الكاملة (*)


3 . استمداد علم السيرة النبوية الكاملة

يواصل الدكتور يسري إبراهيم تأصيله لعلم السيرة، فبعد أن تحدث عن تعريفه وصلته بعلوم شرعية أخرى، ينتقل في هذه الحلقة إلى جانب آخر من هذا التأصيل يتعلق بما منه يستمد علم السيرة مبادئه

يَستمِدُّ علمُ السيرة النبوية الكاملة مادَّتَهُ مِن مَعِينٍ ثَرِيٍّ جدًّا، شديدِ الخصوبة، متنوعِ الأصول والروافد والموارد؛ بحيث إنه يعتبر من أكثر العلوم الشـرعية استمدادًا واتصالًا بغيره.
وفيما يلي عرضٌ لموارد علم السيرة النبوية الكاملة:
أولاً: القرآن الكريم:
القرآن الكريم هو الحق المطلق وهو الخبر الصادق المحفوظ، فالحقيقة التاريخية التي يقررها القرآن هي التي لا يعوزها في ذاتها برهان! فهي حقيقة مطلقة قطعية الثبوت لا محاله.
وقد أفرد القرآن الكريم قسمًا كبيرًا من آياته يحدِّث عن نبينا [ وشخصه وشمائله وأوصافه، كما تناول طرفًا من أحداث حياته قبل البعثة وبعدها، وقدم صورةً كاملة للمجتمع الجاهلي دينيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا، وفصَّل في كثير من المغازي النبوية، وتناول خصومَ النبيِّ [ وأعداءَ دعوته، ممن خالفوا في أصل دينه من المشـركين، وأهل الكتاب، وعرض لجدالهم الفكريِّ ومحاولاتهم للنيلِ مِن النبيِّ [.
وتميز القرآنُ بمميزاتٍ كثيرةٍ في عرضِ أحداثِ السيرةِ من أهمها: ما يأتي:
1 – الصحة والصدق والثبوت:
قال تعالى- عن القرآن-: {لا ياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد}(فصلت:42)، وقال- أيضًا: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظمن} (الحجر:9)، وقال أيضًا: {وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا}(الإسراء:105)؛ فهي أوثقُ مصادرِ السيرةِ على الإطلاق وأولاها بالقبول(1).
2 – تصوير الأحداث بوصف السرائر والضمائر:
فقد انفرد القرآن بحكايةِ ما في القلوب والبواطن، وشرحِ حالةِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذِكْرِ ما في طويته وسريرته من المشاعر.
فتارة يقول الله تعالى لنبيِّهِ [ : {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه}(الأحزاب:37). وتارةً يقول تعالى لنبيه [: {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يومنوا بهذا الحديث أسفا}(الكهف:6).
وتارةً يصور حال أصحابه، فيقول تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم….} (البقرة:187)، وأخرى يقول لهم: {…وإن فريقا من المومنين لكارهون}(الأنفال:5)، ويقول: {وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم}(الأنفال:7)، ويقول: {منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة..}(آل عمران:152)؛ بل ويُحَدِّثُ عن خفايا نفوس أعدائه، فيقول: {ودوا لو تدهن فيدهنون}(القلم:9)، ويقول: {ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون}(الحجر:15-14).
3 – الإيجاز مع الدقة والإعجاز:
لقد واكب القرآن الكريم مراحل السيرة النبوية كافةً، وسلط عليها أضواء كاشفة، على وجه من التفصيلِ غيرِ المملِّ، والإيجازِ غيرِ المخلِّ، والتركيز على دقائقَ ووقائعَ مهمَّةٍ، والإشارة إلى موضع الفائدة منها والعبرة، والإعراض عن تفاصيلَ لا فائدةَ مِن ذِكرها، مع دقةٍ في وصفِ ما يُوصَفُ وتصويرِ ما وقع من الأحداث المؤثرة، كقوله تعالى: {إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا هنالك ابتلي المومنون وزلزلوا زلزالا شديدا} (الأحزاب:11-10)، وقوله تعالى: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفون حرج إذا نصحوا لله ورسوله…..}(التوبة:91).
4 – العناية بشخص النبيِّ [ :
وتلك العناية بادية في الآيات التي تناولت مقامَ النبيِّ [ وفضائلَهُ، وخصائصَهُ وشمائلَهُ، ومعجزاتِهِ، وارتباطَهُ بإخوانه النبيين عليهم الصلاة والسلام، وأنه امتدادُ موكِبِهم، وختامُ سيرتِهِم، فلا غَرْوَ أن يعتنيَ الوحي بتسديده، وأن يأخذ بيده وينقل خطواته.
ومع ما ذُكِرَ مِن خصائصَ فالقرآن الكريم ليس كتابَ سيرةٍ أو تاريخٍ شخصيٍّ، وإنما هو مستوعِبٌ لكثير من أحداثها ومضامينها المتعلِّقَةِ بحياته [، وذلك بحسب اتصالها بمهمة القرآن العظيم، والهداية للتي هي أقوم(2).
ثانيًا: علوم القرآن الكريم:
يتصل بالقرآن علوم كثيرة متعددة، على رأسها: علم التفسير، وهو غاية في الأهمية لإدراك معاني الكتاب العزيز والوصول إلى مراميه ومغازيه.
وأول ما يُفَسِّرُ القرآنَ هو القرآنُ نفسُهُ! وأهم ما يُفصِّل ما فيه من مجمل، أو يُقَيِّدُ ما فيه من مطلقٍ، أو يخصِّصُ ما فيه من عموم هو القرآنُ نفسُه، ثم مروياتُ التفسير المأثورة عن النبي [، ثم الصحابة رضي الله عنهم، والتابعين، وكتبُ التفسير بالمأثور زاخرةٌ بمروياتِ رجالاتِ السيرة ورواتها المعتبرين، ومن أهم تلك الكتب: تفسير ابن جرير الطبري، وابن أبي حاتم الرازي، وغيرهما.
ومن أهم تلك العلوم في معرفة السيرة: علم أسباب النزول؛ وذلك لاهتمام العلم بأحوال نزول الوحي وتوقيتاته الزمانية والمكانية، ولعلماء السيرة اعتناءٌ بأسباب النزول لكونها جزءًا من تاريخ الرسالة النبوية.
ولهذا قال الزركشيُّ- في فائدة ذلك العلمِ-: «وأخطأ مَن زعم أنه لا طائِلَ تحته لجريانه مجرَى التاريخ»(3).
ولم يَخْلُ كتابٌ حديثيٌّ مِن ذكرِ أسباب النزول، وكما لم يَخْلُ كتاب تفسير منها، إلا أن عددًا من العلماء أفردوها بالتصنيف قديمًا وحديثًا، ومن أشهرها: أسبابُ النزول للواقدي (468)، والعجابُ في بيان الأسباب للعسقلاني (852)، وغيرها.
ومن العلوم النافعة في السيرة: علم الناسخ والمنسوخ؛ وذلك لاعتماده على النقل والتاريخ، دون الرأيِ والاجتهادِ(4)، وتمييز الناسخ والمنسوخ من الآيات يتطلب بحثًا دقيقًا وإلمامًا كبيرًا بالظرف التاريخيِّ المرتبط بتلك الآيات، وقد وضع أحد روادِ السيرة كتابًا في الناسخ والمنسوخ، وهو الإمام الزهريُّ (123)، وقد تواترت عناية الصحابة فمَن بعدَهم بهذا العلم، ومما يُتمِّمُ هذا المعنى العنايةُ بعلم المكيِّ والمدنيِّ، يقول علي ] : «والله ما نزلت آية من كتاب الله إلَّا وقد علمتُ أين نزلَتْ»(5)، وقال ابن مسعود ] : «ما أُنزلت سورةٌ من كتاب الله إلا أنا أعلمُ أين نزلَتْ»(6).
ويقول ابن عباس ] : «كنتُ ألزمُ الأكابرَ من أصحاب رسول الله [ من المهاجرين والأنصار، فجعلتُ أسألُ أُبَيَّ بنَ كعبٍ يومًا- وكان من الراسخين في العلم- عما نزل من القرآن بالمدينة، فقال: نزل بها سبع وعشـرون سورة وسائرها بمكة»(7).
وقد عُنِيَ الزهريُّ- أيضًا- بوضعِ مصنَّفٍ فيه بعنوان: تنزيل القرآن بمكة والمدينة(8).
كما اعتنوا رضي الله عنهم بجوانبَ دقيقةٍ من معرفة النهاريِّ والليليِّ من القرآن الكريم، بعد عنايتهم بالمكيِّ والمدنيِّ منه، والسَّفريِّ والحضريِّ.
وبهذا العرض يتضح أن التفسير وعلوم القرآن ذات فائدة مهمة في إمداد السيرة النبوية بتفاصيلَ دقيقةٍ، وغنيةٍ بالمادة التاريخية للسيرة النبوية، وهذا من حيث وفرةُ المادة التاريخية وأهميتها، أمَّا من حيثُ تقويمِ مادةِ السيرةِ التي حوتها كتبُ التفسير وعلوم القرآن فعنها يقول ابن خلدون: «وقد جمع المتقدِّمون في ذلك وأوعوا، إلا أن كتبهم ومنقولاتهم تشمل الغثَّ والثَّمينَ، والمقبولَ والمردودَ»(9)، والمعوَّلُ عليه- لا سيما عند اختلاف الروايات وتضاربها- ما صحَّ منها لا ما ضَعُفَ، وما ثبت لا ما لم يثبت.
———
(1) السيرة النبوية على ضوء الكتاب والسنة، لمحمد أبي شهبة (ص13).
(2) السيرة النبوية الصحيحة، د. أكرم ضياء العمري (ص48).
(3) البرهان، للزركشي (1/22).
(4) الإتقان في علم القرآن، للسيوطي (2/24).
(5) الحلية، لأبي نعيم (1/67- 68).
(6) البخاري (4716).
(7) طبقات، ابن سعد (2/371).
(8) نُشر بتحقيق: حاتم الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت، عام 1408هـ- 1988م.
(9) مقدمة ابن خلدون (ص439).

أخصُّ مِن علم السيرة النبوية الكاملة!

الدكتور يسري إبراهيم
—————
(1) الصحاح، للجوهري (1/418).
(2) المختصر في التاريخ، للكافيجي (ص32).
(3) الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ، للسخاوي (ص7).
(4) مقدمة ابن خلدون (ص4)، ط: دار إحياء التراث العربي.
(5) مصادر السيرة النبوية، د. ياسر نور (ص240).
(6) وفيات الأعيان، لابن خلكان (4/191).
———
* المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر العالمي الثاني للباحثين في السيرة النبوية
الذي نظم بفاس أيام 28-27-26 محرم 1436 الموافق 22-21-20 نونبر 2014.