قراءة في أعمال المؤتمر العالمي الثالث للباحثين في القرآن الكريم وعلومه


بناء علم أصول التفسير أي واقع؟ وأية آفاق؟

بالتعاون بين مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع) فاس، والرابطة المحمدية للعلماء – الرباط، ومركز تفسير (المملكة العربية السعودية) نظم المؤتمر العالمي الثالث للباحثين في القرآن الكريم وعلومه في موضوع «بناء علم أصول التفسير: الواقع والآفاق» بفاس أيام 19-20-21 جمادى الثانية 1436هـ الموافق 9-10-11 أبريل 2015م.

ترى ما هو سياق المؤتمر ورهاناته؟ وما هي أهم الإشكالات والقضايا التي أثارها المؤتمر وسعى للبحث فيها؟ ثم ما هي أهم التطلعات والمقترحات التي انتهى إليها المؤتمرون؟

أولا : سياقات ورهانات :

يعد علم أصول التفسير واحدا من العلوم الإسلامية الذي يحتل مكانة قصوى في نسق العلوم الإسلامية، باعتباره العلم الواضع لقواعد وأصول  التعامل مع كتاب الله تعالى، ورغم هذه الأهمية فقد ظل هذا العلم يشكو من إشكالات ابستمولوجية على صعيد الموضوع والمفاهيم والمنهج والنتائج، ولم تتحرر مبادئه بما يلزم من التحرر والتحرير النظري العلمي والتطبيقي، فشابه عبر مسيرته التاريخية تأخر في النضج والتأسيس العلمي السليم، ولحق مفاهيمه كثير من أشكال الغموض والالتباس، وتداخل موضوعه مع كثير من علوم الوحي الأخرى، وتناثرت جزئيات مبادئه في كثير من بحار العلوم وقاراتها، وتأثرت تطبيقاته بكثير من الإشكالات التاريخية والمذهبية والتوظيفات غير العلمية.

ومحاولة للنهوض بالمسألة العلمية في جميع التخصصات وعلى جميع المستويات عامة وفي مجال علوم الوحي وعلم التفسير وأصوله بالأخص، واستجابة لواجب الوقت، وشدة حاجة الأمة إلى بناء الأسس اللازمة لنهوضها الحضاري، فقد كان تنظيم هذا المؤتمر محطة علمية ضرورية للمشورة العلمية في بناء هذا العلم.

فقد تضمنت ديباجة المؤتمر ما يؤشر على السياق العلمي والتاريخي (الماضي والحاضر والمستقبلي) الذي يتأطر ضمنه موضوع المؤتمر وإشكالاته التي بناء عليها تحددت رهاناته العلمية والعملية، ذلك أن أهم معضلة ورثتها الأمة في علومها الخادمة للوحي هي «أن الأمة لم تُنضج «العلم الضابط لبيان القرآن الكريم»، كما صنعت مع علوم أخرى مثل مصطلح الحديث وأصول الفقه والنحو والبلاغة وغيرها» الأمر الذي ترتب عنه آثار ونتائج منها أن «التفسير أصبح ميدانا لمن شاء أن يقول في كتاب الله عز وجل ما شاء، وظهرت أشكال من الشذوذ في الفهم والتكلف في تناول ألفاظ القرآن الكريم ونصوصه»، ومن أجل النهوض السليم واستشراف مستقبل آمن علميا كانت «الأمة اليوم -وهي تستشرف غدا جديدا- مدعوة إلى الوقوف عند تراثها التفسيري، بجهود صادقة مخلصة لاستخلاص أصول هذا العلم من مصادره، وتخليصه مما التبس به، وتصنيفه، وتكميل بنائه، ليصير علما ضابطا لبيان القرآن الكريم من الفهم السليم حتى الاستنباط السليم»

وهكذا يتبين أن المؤتمر انطلق في اختيار موضوعه من اعتبارات تاريخية وعلمية وواقعية ومستقبلية تنشد إصلاح واقع الأمة الذي لا يصلح حق الصلاح إلا بترشيد الحركة العلمية عموما والدائرة على علوم الوحي أساسا.

وهكذا ولتحقيق هذه الطموحات حصر المؤتمر أهدافه الكبرى في ثلاثة:

«أولها حصر جهود العلماء في أصول التفسير وتصنيفها وتقويمها، وثانيها توظيف تلك الجهود في بناء علم أصول التفسير، وثالثها وضع منهجية علمية متكاملة لبناء علم أصول التفسير».

ويظهر من هذه الأهداف أنها تصب في اتجاه متكامل منسجم مع متطلبات الذات الحضارية علميا وواقعيا (تاريخا وحاضرا ومستقبلا) لأن أي دعوى للبناء العلمي الضابط لأي علم كان لا تستقيم بتجاوز التراث العلمي السابق وإنما من الانطلاق منه حصرا واستيعابا وتصنيفا وتقويما تحليلا وتعليلا، ولا تستوي على سوقها من غير توظيف تلك الجهود الناضجة واستصحاب ما صح منها وصلح، كما أنها لن تنضج النضج العلمي الكافي إلا بإنضاج منهجية علمية متكاملة لبناء هذا العلم من حيث جهازه المفاهيمي والموضوعي والمنهجي.

ثانيا: محاور المؤتمر وقضاياه :

وفي سبيل ذلك انحصرت محاور هذا المؤتمر في معالجة الإشكالات العلمية المتعلقة بأصول هذا العلم، وهي خمسة محاور:

< المحور الأول مفاهيم أساسية نحو مفهوم التفسير ومفهوم التأويل ومفهوم البيان ومفهوم أصول التفسيروقواعده؛ والغاية منه «تناولُ أهم المصطلحات في تسمية هذا العلم وتحديدُ مفاهيمها؛ لدفع إشكال التعدد في تسميته، ومعرفةِ المصطلح الأنسب في تلك التسمية».

< المحور الثاني أصول نقلية: وخاصة أصل تفسير القرآن بالقرآن، وأصل تفسير القرآن بالسنة، وأصل تفسير القرآن بأقوال الصحابة، وأصل تفسير القرآن بأقوال التابعين» والغاية من مدارسة هذه الأصول النقلية هو «الكشف عن المعيار أو المعايير الضابطة لاعتماد كل أصل من هذه الأصول تأمينا للفهم السليم».

< المحور الثالث أصول لغوية؛ ومنها أصول معجمية وصوتية، وأصول صرفية ونحوية، وأصول بلاغية وأسلوبية، وأصول دلالية (مباحث الدلالة عند الأصوليين)، والهدف من دراسة هذا المحور هو ما يعترض التفسير من عدم تبين المعايير الضابطة للفهم ولذلك يرجى في عملية بناء هذا العلم في هذا المجال «الكشف عن معايير ضبط الفهم التي انتهت إليها جهود علماء اللغة وأصول الفقه في تحليل النصوص والاستنباط منها»،

< المحور الرابع أصول أخرى خاصة الأصول العقلية والأصول المقاصدية والأصول السننية والأصول الطبيعية؛ ذلك أن فهم كتاب الله لا يتوقف على الأصول النقلية واللغوية فحسب ولكن أيضا على أصول عقلية أخرى، هذه الأصول لم تنضج في تاريخ علوم الوحي إلا متأخرة فضلا عن أنه شابها كثير من سوء الفهم والتوظيف جعلها في حاجة إلى التقنين العلمي الصارم يؤهلها أن تكون «معايير أخرى ضابطة للفهم» إلى جانب المعايير النقلية واللغوية.

هذا وتجدر الإشارة إلى أن المؤتمر شهد إلقاء 27 عرضا إضافة إلى أنشطة علمية أخرى متنوعة (محاضرة افتتاحية ألقاها الدكتور محمد الكتاني عضو أكاديمية المملكة في موضوع: «القرآن الكريم: إعجاز متجدد»، ومحاضرة ختامية في موضوع «البيان المقاصدي للقرآن الكريم» ألقاها الدكتور زيد بوشعراء (جامعة ابن طفيل- القنيطرة)، إلى جانب المعرض الذي شاركت فيه مؤسسات علمية وجامعية ومكتبات.

ثالثا : ورشات المؤتمر: من الإشكالات إلى المقترحات :

إضافة إلى الورشات التي نظمت بقصد تعميق المشورة العلمية وتأسيس نواة أولى لمشروع بناء علم أصول التفسير، فقد وزعت الورشات إلى خمس:

الأولى ورشة مفهوم أصول التفسير: بقصد «تحديد مفاهيم المصطلحات المستعملة في تسمية هذا العلم: كالتفسير والتأويل، والبيان، وأصول التفسير وقواعده.. لدفع إشكال التعدد في تسميته ومعرفة المصطلح الأنسب في تلك التسمية»

الثانية ورشة الأصول النقلية والهدف منها  السعي إلى : «الكشف عن المعيار أو المعايير الضابطة لاعتماد كل أصل من الأصول النقلية»

الثالثة ورشة الأصول اللغوية ومهمتها العمل على «حصر ما انتهى إليه المفسرون وغيرهم من توظيف اللسان العربي بمختلف وجوهه وأدواته: معجم وصوت وصرف ونحو وبلاغة وغيرها، في أصول وقواعد وضوابط لتفسير القرآن الكريم»

الرابعة ورشة الأصول الدلالية والغاية منها بذل الجهد في «تمحيص مدى كفاية مباحث الدلالة عند الأصوليين في فهم سائر نصوص الوحي والاستنباط منها»

الخامسة ورشة الأصول المقاصدية ووضعت من أجل الاجتهاد في «حصر واستخلاص أصول التفسير التي ترجع إلى مقاصد الشريعة وكلياتها « لما لها من قيمة في استكمال الفهم وتسديد الاستنباط.

السادسة ورشة الأصول السننية العقلية وقصد منها البحث في ما يحقق «ضبط الأصول المستخلصة أو التي يمكن استخلاصها من سنن الله تعالى في الكون والتي تسهم في مع باقي الأصول في تحقيق الفهم السليم والاستنباط الصحيح» (ورقة ورشات المؤتمر)

وهكذا عملت الورشات وَفْق خطة محددة الأهداف والمراحل قامت على: الحصر والاستيعاب في أي أصل من أصول التفسير أولا، ثم ثانيا الكشف عن مواطن النقص في بناء هذا العلم، تحليلا وتعليلا وتمثيلا، وثالثا التقويم والتركيب والاستشراف وذلك باقتراح ما يلزم لوضع تصور لمنهجية علمية متكاملة لبناء علم أصول التفسير، وبناء على ذلك انتهت الورشات إلى استخلاص أهم الحاجات الكبرى في المشروع ولوازمه ومن أبرزها :

1 – حاجة حصر الموجود قديما وحديثا واستيعابه وتصنيفه وتقويمه، واستخلاص الخلاصات الكبرى المفيدة في البناء.

2 – حاجة تحديد شروط العلمية تحديدا نظريا دقيقا على مستوى الموضوع والمنهج والمبادئ كما هو متعارف عليها في فلسفة العلوم.

3 – تحديد مفاهيم العلم وتحريرها من كل ما شابها مما لا ينبغي.

4 -تحديد المحددات المنهجية الكبرى الضابطة للتعامل مع القرآن الكريم.

5 – تجسير العلاقة بين العلوم الشرعية في ذاتها، وبينها وبين غيرها من العلوم الإنسانية والمادية.

رابعا خلاصات المؤتمر وتوصياته :

انتهى العمل في مؤتمر بناء علم أصول التفسير الواقع والآفاق إلى استخلاص خلاصات عملية من شأنها التأسيس للانطلاق الفعلي في بناء هذا العلم ومن أبرزها: الدعوة إلى «تكوين لجنة علمية مهمتها الانطلاق من عروض المؤتمر ونتائج ورشاته لجمع ما تفرق، وتقديم مشروع متكامل لعلم أصول التفسير المنتظر»  وستشكل هذه اللجنة النواة الأولى لميلاد علم أصول التفسير كما هو مأمول، كما دعا المؤتمر إلى «التعاون بين الباحثين أفرادا ومؤسسات على إنجاز مشاريع النهوض العلمي للأمة ومنها مشروع تكميل بناء علم أصول التفسير» لأن إنجاز مهمة بناء هذا العلم يحتاج إلى طاقات بشرية مؤهلة علميا ومنهجيا وتقنيا ومنخرطة بفعالية في المشروع، ونظرا لقلة البحوث العلمية في مجال الأصول المقاصدية والعقلية والسننية فقد تضمنت توصيات المؤتمر «دعوة العلماء والباحثين إلى العناية بالأصول المقاصدية والسننية والعقلية لما يلاحظ من تقصير في العناية بها» ويعلق الأمل على استدراك هذا النقص لماينطلق مشروع العمل مستقبلا، ذلك المشروع الذي يستوجب تضافر جهود المؤسسات الجامعية والبحثية أيضا لذلك دعا المؤتمر «الجامعات في بلدان منظمة التعاون الإسلامي إلى توجيه البحث العلمي في الدراسات العليا لخدمة مشاريع النهوض العلمي للأمة، ولا سيما في مجال القرآن الكريم وعلومه، وذلك بتخصيص وحدات للماستر والدكتوراه في أصول التفسير»، إلى جانب هذا فإن علمية علم أصول التفسير لا يمكنها أن تنضج بما فيه الكفاية ما لم تضبط مفاهيم العلم وتحصر وتصنف وتجمع في «معجم أو معاجم مصطلحات القرآن الكريم وعلومه» التي تحتاج إلى إعداد  علمي عاجل كما أكد ذلك المؤتمر في توصيته الأخيرة.

وخلاصة القول فإن المؤتمر العالمي للباحثين في القرآن الكريم وعلومه في موضوع «بناء علم أصول التفسير: الواقع والآفاق» قد أسهم كثيرا في فتح النقاش العلمي الرصين بين أهل العلم من الباحثين المتخصصين في جبهة من الجبهات العلمية والمنهجية اللازم بناؤها أو استكمال ما نقص من بنائها لتحقيق نهضة الأمة نهضة راشدة على أسس من الرشد العلمي والمنهجي وبروح التكامل والتعاون والتنسيق والمشورة العلمية، وفعلا فإن بناء علم أصول التفسير مشروع علمي ضخم يحتاج في النهوض بأعبائه إلى العصبة أولي القوة من أهل العلم والاستقامة، وبتحقيقه سيكون هذا الجيل قد أسهم في إعادة الأمة إلى استئناف تفاعلها الحضاري بوعي ورشد وبصيرة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>