خروق في سفينة المجتمع 55ـ خرق الخارجين على القانون


يلتئم شمل أفراد سفينة المجتمع عندما يظلهم قانون واحد، ينضبطون لمواده وبنوده، وينزلون عند تشريعاته وأحكامه، راضين مطمئنين، مقدرين ما ينالهم من ذلك الانضباط من جريان لمصالحهم، واستمرار لمعايشهم وعمرانهم، وتماسك للحمتهم وقوة لتعاضدهم. ويفترض في ذلك القانون أن تتوفر فيه صفة الحق والعدالة والتوازن والشمول، ويكون هؤلاء الأفراد على العكس من ذلك، معرضين لانفراط الشمل وتضارب المصالح وخراب العمران، كلما اضطربت مشاعرهم ومواقفهم تجاه القانون الذي يحكمهم، ذلك أن العامل النفسي المتولد عن التعامل مع القانون إيجابا أو سلبا، يعتبر شرطا لازما من شروط حركة البناء الاجتماعي، والنهوض الحضاري، في أبعاده العميقة والمتجذرة. يصح هذا الطرح بنسب متفاوتة تبعا للمصادر التي تستقى منها القوانين، هل هي سماوية ربانية،أم أرضية بشرية.على أن الوضع الأمثل الذي يعيشه المجتمع على مستوى التناسق والانسجام، والشعور بالأمان والاطمئنان، هو الوضع الذي تستقى فيه النظم القانونية من الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
ولا يفت في صدق هذه الأطروحة ومصداقيتها في الحالة التي يكون فيها القانون مستقى من شرع الله، كون فئات أو شراذم من الناس في المجتمع الذي يحكمه ذلك القانون غير دائنين بالولاء لذلك القانون على مستوى الاقتناع الفكري، ما دام هؤلاء ملتزمين بالانضباط له على مستوى الاحترام والمراعاة، وتجنب الإخلال بنظام المجتمع ومصالحه العليا.
مناسبة هذا الكلام، ما أثير من غبار الشغب والتشويش في وجه مسودة القانون الجنائي المغربي من طرف بعض المناوئين لما تضمنته من مواد تنسجم مع موقف الإسلام من بعض القضايا والممارسات. فقد اعترض أحد هؤلاء المناوئين على المادة 219 التي جاء فيها:» تعاقب المادة 219 من قام عمدا بالسب أو القذف أو الاستهزاء أو الإساءة إلى الله أو إلى الأنبياء والرسل بواسطة الخطب أو الصياح أو التهديدات المتفوه بها في الأماكن أو الاجتماعات العمومية، أو بواسطة المكتوبات، أو المطبوعات أو الغناء، أو الإيماء، أو أي وسيلة أخرى»، محاولا إبطالها أو التشكيك في جدواها ومنطقيتها تحت ستار نقاش مفتعل ركيك، يتذرع بمحاولة فجة لفلسفة الموضوع، أو إدخاله في نطاق البحث السوسيولوجي الذي يتوخى تشخيص الظواهر واستقصاء عللها وأسبابها. يقول الكاتب في سياق مقال بعنوان: «واقع الحُريّات الفردِية داخل المسودّة الجنائية» :» وإلا فإن المعاقبة على هكذا أفعال من شأنها أن تُدخِل المجتمع في علاقات متشنجة هو في غنى عنها (إذ ستكثر محاولات الإيقاع بالناس بسبب سب الدين أو الملة التي تخرج في حالات الغضب)، فظاهرة سب الدين أو الملة أو الله الموجودة في مجتمعنا، تحتاج إلى دراسات علمية ونفسية لفهم أسبابها ودوافعها من أجل علاج أصحابها وتوعيتهم بالأساليب التربوية، ما داموا في الغالب لا يفعلون ذلك متعمّدين فعل الإساءة، وإنما يحدث ذلك بشكل غير مفهوم وغير مفكر فيه»
ويناقش الكاتب المادة 220 المتعلقة بعقوبة من يقوم بزعزعة عقيدة مسلم، بطريقة لا تخرج عن سياق نفس الحذلقة والتعالم الذي استخدمه في مناقشة المادة السابقة، فهو يذهب بعيدا في تحليل لفظ الزعزعة الذي اعتبره فظفاظا وقابلا للتأويلات المتعددة،» من قبيل «الأفكار النقدية وطرح الأسئلة الوجودية»، ليشط بعيدا عن المقصد الذي وضعت لأجله المادة، ويسجل خروجا عن الموضوع يثير الإشفاق.( hors sujet).
وبنفس الفجاجة وقلة العلم، مع ادعائه، يناقش المادة 222 التي تعاقب بالحبس من شهر إلى ستة أشهر وغرامة على من عرف باعتناقه الدين الإسلامي وتجاهر بالإفطار في نهار رمضان في مكان عمومي دون عذر شرعي» فهذه المادة رغم وضوح مقصدها لكل ذي عقل سليم، يجعلها الكاتب الذي يذيل مقاله بعبارة:»دكتوراه في القانون»موضع جدال ظاهر للعيان عقمه، ونزعة التكلف والعناد والحذلقة فيه، ويزيد اعتراض الكاتب على مضمون هذه المادة فجاجة وتحذلقا، استشهاده بأحاديث في الموضوع، منها الحديث القدسي :» الصوم لي وأنا أجزي به» لأن ذلك الاستشهاد قد أخطأ محله ومناسبته، بل إنه يدمغه بالجهل وسوء المنطق واعوجاج الفهم، لأنه لو أعمل عقله في الحديث لوجده يضرب في الصميم ما يرمي إلى إثباته، فإذا كان الصائم في وضع من يخفى عمله إلا على من يتوجه إليه بصيامه، وهو من يعلم السر وأخفى سبحانه وتعالى، أفليس من السفه والبجاحة في أحط صورها، ومن الصفاقة والتحدي الأخرق أن يجاهر الملحدون في دين الله بالإفطار في رمضان على مرأى ومسمع من مجتمع الصائمين، وكأنهم، في حسبانهم، يسجلون بصنيعهم ذاك بطولة من البطولات !؟
ومن التدليس المفضوح والفاضح في التصدي لهذه القضية المصيرية في حياة الشعب، أن يتم تناولها في سياق التدافع الحزبي والصراع السياسي، في أفق الانتصار للتيارات الحزبية الحاملة للمشروع العلماني، والمناهضة لكل ما هو إسلامي، بما في ذلك تثبيت الصلة بين القانون الجنائي لدولة المغرب، وبين الإسلام. من ذلك، أن أحد الموتورين بكراهية كل ما له علاقة بالإسلام من قيم ونظم وتشريعات، وجد هو أيضا في فتح باب النقاش لمسودة القانون الجنائي فرصة للتنفيس عن أحقاده وضغائنه تجاه بعض مواد ذلك القانون. فقد حز في نفسه أن تتضمن إحدى تلك المواد ما اعتبره مساسا بالحريات الشخصية:» يعاقب من شهر واحد إلى سنتين وغرامة من 2000 إلى 20000 درهم، من ارتكب إخلالا علنيا بالحياء، وذلك بالعري المتعمد أو بالبذاءة في الإشارة والأفعال».
فضمن مقال عنونه الكاتب ب: «مشروع القانون الجنائي مدخل لدعوشة المغرب» يتهم من يحرصون على أن يحفظوا لمواد القانون الجنائي صبغتها الإسلامية، بأنهم يمارسون على المجتمع المغربي» الطلبنة» (نسبة إلى طالبان) و»الدعوشة» ( نسبة إلى داعش)، فهو يتخذ من الحمولة القدحية الكثيفة المستخرجة من هذين اللفظين حجابا يظنه ساترا لعدائه للإسلام جملة وتفصيلا، ولعواره المنهجي في المناقشة والتحليل واستخلاص النتائج، فلست واجدا في سياق كلامه إلا لمز أشخاص بأعيانهم، ودمغهم بانتمائهم السياسي المرتبط بحمل شعار الولاء لمذهبية الإسلام، عقيدة وشريعة ومنهج حياة.
لقد أتى الكاتب منكرا من القول وزورا مما يأنف من التلفظ به من كانت به أدنى مسكة من عقل أو حياء، استمع إليه يقول: « وسيجد السلفيون والإسلاميون وكل من في قلبه عداء للحداثة، فرصة لمطاردة المحبين والرومانسيين والأزواج العصريين فيُبلّغ عن الأفعال» المخلة بالحياء»
إن هذا الكاتب وأمثاله يمثلون خرقا خطيرا في سفينة المجتمع، باعتبارهم خارجين عن القانون، ليس بشعورهم واقتناعاتهم الإيديولوجية فحسب، بل إنهم ليتخطون ذلك إلى المشاغبة والتشويش، والطعن فيما يمثل الوجه المشرق لقانون الشعب المغربي المسلم.
وصدق الله القائل:{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِن الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَث أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }(الأعراف: 175-176)

د. عبد المجيد بنمسعود