أذكر أني ذات مرة، ومنذ سنوات خلت، وأنا أمشي في بعض الأزقة، شاهدت شخصا من بعيد وهو يدور حول نفسه في نفس المكان، يذهب ويعود، يشير بيده إلى الأمام ثم يُلَوّح بها نحو الأعلى… فقلت في نفسي: لعله أحمق! فلما اقتربت منه تَبَيَّن لي أن يتكلم بالهاتف.
وبعد أيام، وفي نفس المكان من نفس الزقاق، شاهدت شخصا وهو يقوم بنفس الحركات التي كان يقوم بها الشخص السابق، فقلت في نفسي من جديد: لعله ذلك الشخص السابق، يتحدث في الهاتف من جديد، فلما اقتربت منه تَبَيَّن لي أنه أحمق.
فقلت في نفسي وأنا أتذكر المشهد السابق قد يظهر الهاتف الإنسان وكأنه أحمق إن لم يحسن توظيفه واستعماله.
هذا حينما كان التواصل بالهاتف المحمول صوتيا فقط..
أما الآن وبعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بالصوت والصورة فيبدو أن الأمور قد تغيرت بشكل كبير…
ذلك أن العديد من الدارسين والمهتمين والإعلاميين يتحدثون عن إدمان شرائح كبيرة من الناس في مختلف البلدان على الشابكة (الإنترنت)، إلى درجة أن هذا الإدمان قد يسبب في إحداث خلخلة في أعمال هؤلاء الناس، أو ربما حتى في شؤون حياتهم الخاصة والاجتماعية خارج إطار العمل، بل وقد يتسبب ذلك في إلحاق الأذى بالآخرين..
نسمع كل يوم ونقرأ عن حوادث سير سببها الانشغال بالهاتف أو ما يتبعه.
نرى كل يوم ونشاهد أشخاصا في مكان واحد: قاعات انتظار، أمكنة عامة… و قد يكونون من عائلة واحدة، لكن كل واحد منهم منشغل بعالمه الخاص، في الهواتف واللوحات، يتواصلون ويتحدثون، يبتسمون ويضحكون، يتجهمون، وقد يغضبون ويصرخون… لكن مع عالمهم الافتراضي، أما المحيط الحقيقي المُتَجَلِّي في الأسرة القريبة، فقد تقوم الدنيا وتقعد دون أن يعلموا شيئا عنه.
أكثر من هذا أني شاهدت إماما في مسجد، وهو جالس في مكانه من المحراب، يفتح هاتفه بعد السلام من الصلاة، يشاهد الجديد، يرد على رسائل واردة، بينما جمهور المصلين أمامه يُسبّحون ويذكرون الله بعد الصلاة.. وكأن القيامة ستقوم إذا ما انتظر إلى ما بعد الخروج من المسجد.
هذا بعض ما انتشر في بلادنا وكثير من البلدان العربية والإسلامية.
وليس هذا بغريب…
فلقد بينت بعض الدراسات أن مشكلة الإدمان على الشابكة تزداد بشكل أكبر في البلدان الفقيرة، وأن البلدان العربية أكثر إدمانا على الشابكة مقارنة بالدول الأوروبية المنتجة لهذه التكنولوجيا، حيث وصلت النسبة في الدول العربية إلى أزيد من 11%، بينما لم تتجاوز 2.6% في دول أوربا.
ولعل الأكثر غرابة من هذا هو ما قيل من أن الرئيس السابق لشركة “أبل” (Apple) الراحل “ستيف جوبز” لم يكن يسمح لأولاده باقتناء أهمّ منتجات شركته: “الآي فون”، و”الآي باد”،و”الآي بود”؛ لا لِشيء إلا لتخوّفه من التأثير السلبي لاستخدام الأولاد لهذه الأجهزة الإلكترونيّة، بعد ما تجلت له مخاطرها، ولذلك لم يكن يريد أن يرى أثر ذلك في أولاده، وكان يحب بدل ذلك أن “يجلس كل مساء مع أولاده لتناول وجبة العشاء على طاولة كبيرة في المطبخ، ويناقش معهم موضوعات التاريخ وما ورد في بعض الكتب، ومجموعة أخرى متنوعة من الأشياء”.
فمتى ندرك أن الإدمان على التقنية، وخاصة الشابكة، من قِبَل أبنائنا، دون رقيب أو حسيب، يهدد مستقبلهم في العمق !؟
د. عبد الرحيم الرحموني