يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية عبد السلام الهراس


أيها الأستاذ الجليل حليت باسم التدبر فيه يقود إلى استنباط عجيب وهو أن الاسم الشخصي الذي اختير لك هو عبد السلام وافق حقا فيك صفة عزيزة وهو أنك من أنصار السلم والسلامة والبراءة وتغييب الآفات والأسقام والمضار فأنت في علاقاتك وخطاباتك يغلب عليك الاستمساك بالسلم حتى مع الذين تحس منهم أنهم يخفون في أنفسهم مالا يبدون من الرغبة في الخصام تغلبهم بهدوءك وبسمتك فسلامك كالماء يشرب ويطفئ النار فأنت تستحضر في قلبك باستمرار قول الله سبحانه وتعالى وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما وأما اسمك الهراس فهو يرمز إلى تكسير ما ينبغي محاربته مما يفسد حياة الإنسان في دينه وأخلاقه وتعليمه وصحته فأنت تجمع بين الوقوف مع الحق والعدل والخير والجمال وبين الوقوف في وجه الضلال والظلم والشر والفساد.
لقد عرفتك لأول مرة عقب الهجوم الغادر للعدو الصهيوني على مصر سنة 1967 فنزلت جموع الطلبة من الكليات بفاس في مظاهرة ساخنة وانضاف إليهم جمهور كبير من سكان فاس على امتداد شارع محمد الخامس والساحة المجاورة لبنك المغرب وأقيمت منصة توارد على الكلام فيها بعض الشخصيات والأساتذة وكنت واحدا منهم تحركت مشاعرك الصادقة المتدفقة بعبارات مجلجلة تدين بقوة غدر الصهاينة الذي يكشف عن نواياهم السيئة وعن خبثهم وظلمهم وتجبرهم وغطرستهم وعن كراهيتهم للعرب والإسلام وأنهم يريدون أن يمنعوا بأي وسيلة ظهور أي قوة في الدول العربية يمكن أن تهدد كيانهم في ذلك اليوم لمست فيك الشهامة والشجاعة والصدق من نبرات صوتك وقسمات وجهك كنت فذا تغمرك مشاعر البطولة والحرية صادقا في إيمانك ووطنيتك وعواطفك نحو البلاد العربية في المشرق وعرفتك عن قرب عندما صرتُ أحد أساتذة شعبة اللغة العربية بكلية الآداب بفاس وكنتَ آنذاك رئيس الشعبة فكان مما كلفت به خدمة لأساتذة الشعبة أن أقوم في بداية السنة الجامعية بعد أن تقدم لي لائحة بأسماء أساتذة كل مادة أن أقوم بتحديد ساعات العمل لكل أستاذ والمدرجات المخصصة لهم مراعيا جهد الإمكان رغبات الأساتذة في ذلك وأذكر أنه كانت تأتيني منك توصيات ببذل الجهد لإرضاء الأساتذة جميعا دون تمييز بينهم ودون مراعاة أي انتماء أو فوارق وكنت تراجعني في ذلك إذا عبر بعضهم عن عدم رضاه عن الأوقات التي عين له العمل فيها لقد كنت حقا تقدر المسؤولية وكنت ميسرا لا معسرا تجمع القلوب ولا تنفر وكنت ترى في مثل هذه المواقف أن الأساتذة ينبغي أن تتاح لهم الفرص التي تيسر عليهم عملهم على أحسن وجه فيؤدوا ما على عاتقهم من مسؤوليات وواجبات فالجامعات ينتظر منها أن تمد الوطن بأطر وطنية عالية المستوى صالحة للنهوض بمؤسسات الدولة في مختلف الميادين.

إنا نفرح لفرحك ونألم لألمك نفرح عندما تعبر عن فخرك واعتزازك بالحضارة التي بناها العرب في البلاد التي نعتوها بالفردوس وبجنة الخلد

يا أهل أندلس لله دركم

ماء وظل وأنهار وأشجار

ما جنة الخلد إلا في دياركم

ولو تخيرت هذي كنت أختار

و تحزن و تتألم لأنهم لم يؤدوا حق شكر النعمة فأتت عليهم أيام أخلوا فيها بواجب الحفاظ والدفاع والحماية للنعم التي فرطوا فيها فسقطت البلاد في يد من كانوا ينتظرون منهم الغفلة والاشتغال بالدنيا ونسيان الهدف الكبير الذي دفع أجدادهم ليبذلوا أرواحهم في سبيل نشر المبادئ السامية والقيم النبيلة التي جاء بها الإسلام. عبرت عن هذا السقوط الذي حز في نفسك وآلمك في كتابك (الأندلس بين الاختيار والاعتبار : قصة سقوط الأندلس من الفتوح إلى النزوح)، كنت شديد الفرح والاعتزاز بالفتوح شديد الحزن بسبب السقوط والنزوح وأنت تسترجع ذلك في ذاكرتك فيزداد ألمك في السنوات الأخيرة حين ترى وتسمع ما يجري من مظاهر التفرفة والخصومات والنزاعات والقتال في البلاد العربية التي هي حبيبة إليك فطالما أقمت بها طالبا للعلم وزائرا لنشر العلم. ومن عاش تاريخ العرب بالأندلس بقلب حاضر لابد وأن يهتم بأمر المسلمين في العصر الحاضر: ونحن في الشرق والغرب والفصحى بنو رحم ونحن في الجرح والآلام إخوان.
أيها الأستاذ الأمجد والمجد يأتيك من جهات متعددة :

- من سمو أخلاقك وطهارة قلبك وسلامة صدرك وسماحتك وبسمتك ومن صبرك وعفوك
- من علمك وأدبك وحسن بيانك وصدق مشاعرك
- من علو همتك وشهامتك وذكائك وفطنتك
- من محبتك لدينك ووطنك وأمتك وإنسانيتك
- من منهج حياتك في التلقي والتواصل مع الأهل والأصحاب وسائر الناس

ابتليت فصبرت صبر الرجال وصدمت فعفوت عفو الأبطال، وكل ذلك من شيم الأطهار الأخيار.

صبر بليت به وصار سجية

أيوب قد سابقته بحصان

عفو عفوت به فكنت مبرزا

في الحلم والإكرام والإحسان

وجواهر الآداب والأخلاق والـ

حسنات قد بينتها ببيان

أي فضل لك على الناس يتسع ليسع قلبك الكبير الطافح بمحبة الخير. شخصيات كثيرة من الباحثين تعترف وتقر لك بأنك يسرت لهم صعابا كثيرة أثناء تحضيرهم لأبحاثهم ورسالاتهم تنفعهم بالإرشاد إلى المصادر والمراجع الأساسية أو تربطهم بأساتذة كبار متخصصين وأحيانا ترافقهم إليهم فهذا عين المعروف وزكاة منك على الجاه الذي أكرمك الله به. وكلما واتت الفرصة بعض الأساتذة الذين أكملوا أبحاثهم للقاءك كنت تزودهم بدرر من النصائح المتعلقة بمواصلة البحث والدراسة وإصدار كتب ولو كانت صغيرة الحجم، شهد بذلك مجموعة منهم

قلوب العابدين لها انشراح

ويوم تموت تتسع الجراح

كم كان صدرك رحبا منشرحا مقبلا على الحياة بنشاط وهمة وحيوية مما جعلك تشد الرحال إلى المدن والمناطق المعروفة بالعلم وبتوفر العلماء فيها داخل الوطن وخارجه. انتقلت إلى مدينة العلم بالمغرب مدينة فاس العامرة بعلمائها وبعدها ذهبت إلى بلاد المشرق إلى مصر والشام ولبنان وربطت اتصالات مع أقطاب العلم بها واستفدت منهم علما غزيرا منهم مالك بن نبي الجزائري وشخصيات لها وزنها في تأسيس الحركات الوطنية والجمعيات الفكرية والأدبية،

رحلت وقد كان الرحيل مباركا

أثمرت ثمرا قل للأقران

وقد تجلى أثر كل ذلك في شخصيتك وفي نشاطاتك بعد العودة وحط الرحال في وطنك لتسهم في العمل بالحقل العلمي التعليمي واخترت أن يكون ذلك في حضن فاس حيث الأجواء والأشخاص قريبة الشبه بشفشاون:

قد كنت تختار البلاد لفضلها

فاخترت فاسا موطن العلماء

لجمالها زين وحلم يشتهى

و الأهل أهل مروءة ووفاء

رحيلك وطوافك في الآفاق لم يكن طيلة حياتك لينسيك في رحيل كان حاضرا معك وله تعمل وتجد، مقيم بين جنبيك، حي في ضميرك ووجدانك، إنه الرحيل الذي ينتظره المؤمنون الصالحون المصلحون بشوق ولهفة وعجلت إليك رب لترضى الرحيل إلى الخالق البارئ حيث النعيم المقيم وحيث اللقاء بالرسول الكريم وسائر الأنبياء والمرسلين:

وكل لاحق أبويه يوما

عناق الشوق طال له انتظار

رحمك الله رحمة واسعة وجعل نفسك من بين النفوس التي خاطبها عز وجل بندائه لها “يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي”

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>