مع كتاب الله تعالى – مفهوم التعارف بين مقصدي الخلق والتشريع (2)


من خلال النماذج السابقة يتضح أن مادة (ع ر ف) يدور بعض معانيها على الاطمئنان، وهذا هو الذي ينسجم مع لفظ التعارف بالمعنى الذي يحقق التواصل ويكون في بعض مراحله من لوازم القيام بالخلافة في الأرض وتعميرها، ويرتبط بعدة مقاصد مقررة في الشرع.
وتفصيل ذلك:
1 – إنه من المعلوم أن استمرار وجود النسل الذي هو وسيلة تعمير الأرض والخلافة فيها لا يتم إلا بالزواج بين الذكر والأنثى،ولا زواج بدون تعارف، بل إن أهم أسس العلاقة بين الزوجين هي المودة والرحمة والسكن، وللاطمئنان الذي عليه مدار التعارف مدخل في كل هذه المعاني الثلاثة.
هذا وقد يكون الزواج وسيلة للتعارف على نطاق أوسع كما استثمره النبي في زيجاته المتعددة التي قصد منها، من ضمن ما قصد، توسيع دائرة علاقاته مع مختلف القبائل والبيوت العربية، كما دعا إلى استثماره في حثه على الزواج بالأغراب.
هذا، ومعلوم من جهة أخرى أن حفظ النسل هو أحد الكليات الخمس التي لا تستمر الحياة بدونها كما هو مقرر في كتب المقاصد.
2 – إن حفظ الدين من المقاصد العليا للشريعة الإسلامية، والدين إنما وصل للناس عن طريق التبليغ من مبلغه الأول الرسول ، ثم من ورثته الذين هم العلماء ثانيا، ثم وصل إلى الشعوب من خلال التعارف بين عموم المسلمين وغيرهم ممن أسلموا من خلال مختلف المعاملات مع المسلمين، وبهذا تحقق معنى عالمية الإسلام وشمول رحمته للبشرية كلها حسب ما جاء في قوله تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء : 106)، ولذلك راسل النبي ملوك زمانه وخاطب كل من وصل إليه بدعوته، معرفا بنفسه ورسالته كما هو ثابت في كتب السنة والسيرة النبوية المطهرتين. ولم يكن شيء من ذلك ليتم بدون تعارف.
بل إن من أصول العقيدة وأركانها: الإيمان بالرسل، ولكي يتم هذا الإيمان ويكمل، عرَّفَنا القرآن الكريم بمعظم الرسل والأنبياء وأقوامهم من خلال القصص القرآني المبثوث في كتاب الله تعالى بشكل كبير. وهذا القدر من التعارف بين الشعوب يظل مطلبا أساسا في كل العصور في سبيل التعريف بالرسالة الخاتمة الموجهة للناس جميعا.
3 – إن حفظ النفس لا يقوم إلا بتوفير قدر من الضروريات في المسكن والمطعم والملبس، وهذا لا يتأتى لإنسان مهما كانت قدراته أن يحققه لنفسه دون الاستعانة فيه بغيره، ولذلك خلق الله الناس مختلفين في القدرات والمهارات حتى ينتفع بعضهم بما عند البعض الآخر ويتعاونوا ويتبادلوا الخدمات بما يحقق مصالحهم كما بينه قوله سبحانه: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (الزخرف :31).
4 – من المقرر عند العلماء أن حفظ العقل هو من المقاصد الضرورية، وحفظ العقل من جانب الوجود يكون بالدعوة إلى طلب العلم والثناء على العالم والمتعلم، والدعوة إلى التفكر والتأمل ومن ذلك السير في الأرض، وكل هذه لا تتم بدون تعارف.
5 – وأخيرا فإن كلية المال هي المقصد الخامس من المقاصد الضرورية، وتحصيله لا يتصور في العقل دون تعارف، سواء في معناه البسيط الذي يعني ما يتملكه الإنسان لتستقيم حياته ولا تتوقف كامتلاكه للقدر الضروري من المأكل والملبس، أو بمعناه العام الذي جاءت الشريعة للحفاظ عليه وإنمائه بمختلف المعاملات باعتباره عصب الحياة ومصدر قوة للأمة، وهذه المعاملات التي راعت فيها الشريعة مجموعة من الضوابط، فإنها كلها إنما تتم بين ناس متعارفين ليس فقط بأشخاصهم، بل بصفاتهم التي تشجع على الثقة بينهم وإقامة علاقات من شأنها أن تزيد المال نماء وتداولا بين فئات المجتمع،سواء من خلال المبادلات التجارية، أو من خلال الزكاة والصدقة وهما أيضا لا يمكن أداؤهما بدون قدر قليل أو كبير من التعارف.
- إلى هذا الحد تقرر أن التعارف وسيلة من أهم وسائل قيام الضروريات الخمس وحفظها.
- كان هذا عما يفهم من اعتبار التعارف بين المسلمين أمرا مطلوبا في الشريعة الإسلامية.فماذا عن التعارف بين المسلمين وغيرهم من الأمم والشعوب؟
بالرجوع إلى الآية الكريمة من سورة الحجرات، نجد أن التفاسير القديمة تكاد تخلو من الدعوة إلى التعارف بين المسلمين وغيرهم، على الأقل بشكل صريح، لكن كلمة الشعوب لها دلالة خاصة بيَّنها المفسرون،من ذلك:قول ابن عطية : «والشعوب : جمع شعب وهو أعظم ما يوجد من جماعات الناس مرتبطاً بنسب واحد، ويتلوه القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الأسرة والفصيلة: وهما قرابة الرجل الأدنون فمضر وربيعة وحمير شعوب، وقيس وتميم ومذحج ومراد، قبائل [...]» (1).
يؤخذ من كلام ابن عطية وغيره من اللغويين والمفسرين أن الشعب هو أعظم ما يوجد من جماعات الناس مرتبطاً بنسب واحد،وقد تكون كلمة الشعب بالنسبة للعجم مقابلة للقبيلة عند العرب.
وبناء على هذا المعنى فالدعوة إلى التعارف في آية سورة الحجرات تعم الناس جميعا من مسلمين وغيرهم، وليس فيها ما يخصص الخطاب ويقصره على المسلمين سواء من جهة اللغة أو من جهة السياق المقالي للآية أو من جهة السياق العام للتشريع:
< فمن جهة اللغة، قد تبين أن الشعب هو التجمع العظيم من الناس بغض النظر عن كونهم عربا أو مسلمين أو غير ذلك، خاصة أن آية التعارف افتتحت بقوله تعالى: ياأيها الناس خلافا لما سبقها في السورة من الآيات التي كان الخطاب فيها للمؤمنين خاصة.
< ومن جهة سياق الآية، فإن الله تعالى ذكر كل الفروق التي يمكن تصورها بين الناس، فذكر الذكورة والأنوثة، ثم ذكر الشعوب والقبائل، وذِكْرُهما معا يدل على أن الشعب غير القبيلة، وقد يكون أعم منها بحسب ما يفهم من ترتيب الفروق في الآية، هذا إضافة إلى ما سبق بيانه من أن سورة الحجرات اشتملت على الدعوة إلى طاعة الله ورسوله، ثم بينت أسس التعامل بين المسلمين وضوابطه، فيحتمل وفق هذا الترتيب أن يراد بهذه الآية بيان الضوابط التي ينبغي أن تحكم معاملة الناس عامة بعضهم بعضا، وأن كل هذه الفروق لا قيمة لها في ميزان الله تعالى، بل إنما قصدت هذه الفروق لما يعود بالنفع على الناس من تعارف وتعاون، أما عند الله تعالى فأساس التفاضل بين الناس بمختلف أجناسهم وانتماءاتهم إنما هو التقوى وحده، وهذا ما يشهد له افتتاحها خلافا لجميع آيات السورة بقوله تعالى: يا أيها الناس من جهة، ودلت عليه نصوص قرآنية وحديثية متعددة من جهة ثانية.
< بالرجوع إلى السياق العام للتشريع نجد أن الرسالات السماوية التي بينت للإنسان دوره وواجباته تجاه خالقه، إنما بلغها رسل الله وأنبياؤه لمن يعرفون، وأكثر من ذلك، فإن الرسالة الإسلامية الخاتمة رسالة عالمية، فكيف تتحقق هذه العالمية دون تبليغها للعالمين، وكيف يتم تبليغها دون معرفة مسبقة بالمبلغ إليهم. وقد عرفنا أن الله تعالى دعا النبي إلى مجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن، وأن النبي كانت له معاملات مختلفة مع أهل الكتاب ومع الكفار أيضا، في حدود ما يعين على تبليغ رسالته.
هذا، ويضاف في هذا السياق إقرار الاختلاف بين الناس في نصوص قرآنية وحديثية عدة، مع الدعوة إلى استثمار هذا الاختلاف في تبادل المنافع وفي تحقيق التكامل بين الناس، مع دعوة المسلمين إلى تعلم لغات غيرهم حتى يسهل التواصل بينهم.
غير أن التعارف بين المسلمين وغيرهم، لا بد أن يخضع لضوابط أهمها:
< أن يكون منطلق هذا التعارف من ندية كاملة بين الطرفين حتى يتبين الحق وأصحابه.
< أن يكون هدف المسلمين من هذا التعارف هو تبليغ الدين للناس كافة وتعريفهم به.
< أن يكون من أهداف التعارف الإضافية الحصول على ما عند الآخر من معرفة ونفع لقوله في ما رواه عنه أبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ «الْكَلِمَةُ الْحِكْمَةُ ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ فَحَيْثُ وَجَدَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا» (2).
< أن يبتعد المسلم ممن لم يحصلوا قوة الفهم والمعرفة بالدين عن كل ما يُخاف منه على دينه وعقيدته.
< أن يكون التعارف مع الآخر مبنيا على الحوار البناء بعيدا عن التعصب للرأي الشخصي الذي قد يصيب وقد يخطئ، وأن ينطلق في حواره من الأمور المشتركة، وأن يترك لغيره التوصل إلى الحق والاعتراف به منطلقا في ذلك مما تعلمناه من قوله تعالى: وَإِنَّا أَوْ اِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِين (سبأ 34).
والله تعالى أعلم وأحكم.
دة. كلثومة دخوش
————
1 – المحرر الوجيز 5/153.
2 – أورده والترمذي، وقال عنه: «هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ» كما أورده بقريب من هذا اللفظ ابن ماجة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>