. نسبة علمِ السيرة النبوية الكاملة (4)
علاقة علم السيرة النبوية الكاملة بالتاريخ:
يواصل الدكتور يسري إبراهيم في هذه الحلقة الحديث عن نسبة علم السيرة النبوية، ويخص علاقته بالتاريخ. فما هي علاقة علم السيرة بالتاريخ؟
التاريخ -لغة-: الإعلام بالوقت(1).
واصطلاحًا: علم يُبحَثُ فيه عن الزمان وأحواله، وعن أحوال ما يتعلق به من حيث تعيين ذلك وتوقيته.(2)
وموضوعه: «الإنسان والزمان»(3)
والتاريخ في ظاهره- كعلم- يتناول الأخبارَ والحوادثَ وما يتعلَّق بها من قيام الدول وسقوطها، «وفي باطنه نظرٌ وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيقٌ، وعلمٌ بكيفيات الوقائع وأسبابها عميقٌ؛ فهو لذلك أصيلٌ في الحكمة وعريقٌ، وجدير بأن يُعَدَّ في علومها وخليقٌ»(4)، فالتاريخ يتضمن تحديدًا زمنيًّا للحوادث والوقائع والحقب الزمنية طولًا وقصرًا، كما يتضمن تسجيلًا لخبرات الإنسان الشاملة عبر العصور المتعاقبة، وتفاعل الإنسان معها في مجالات سياسية، واجتماعية، وثقافية، وحضارية، وما يعقب هذا من استنباطِ مفاهيمَ وقيمٍ يُنتفَعُ بها في الواقع والمستقبل.
وبناءً على ما ذُكر، وما تعارف العلماء عليه- في معنى السيرة- فقد ذهب جمهرةٌ منهم إلى أن السيرة النبوية علاقتها بالتاريخ علاقة الجزءِ بالكلِّ، وأنها أخصُّ مِن علم التاريخ مطلقًا.
وما من شكٍّ أن كتبًا كثيرةً في التاريخ قد سلكت السيرة في مادتها، وأن ما يسمى بكتب التاريخ العالمي- وهي ما يؤرخ لبدء الخليقة حتى عصر مؤلف الكتاب- قد عُنيتْ- في الأغلب الأعمِّ- بالسيرة النبوية، ومصدرِ أحداثِها باعتبارها حقبةً من حقب التاريخ العالمي.
ويذهب بعضُ الباحثين إلى أن ابن إسحقَ أولُ مَن وضع- من المؤرخين المسلمين- نواةَ ما يُسمَّى بالتاريخ العالميِّ، بل إن مادَّتَهُ في السيرة النبوية هي التي تَشكَّلَ منها نمطُ التاريخ العالميِّ، وتأسست عليها بنيتُهُ عند المسلمين(5)
ومن أهمِّ مدوناتِ التاريخ العالميِّ أو التاريخِ الإسلاميِّ العامِّ: تاريخُ الرسل والملوك، لابن جرير الطبري (310)، قال عنه ابن خلكان (681): «كان ثقةً في نقله، وتاريخه أصحُّ التواريخ وأثبَتُها»(6) وإن كان قد سُبق ببعض الكتب التاريخية كتاريخ خليفة بن خياط (240هـ)، والتاريخ الكبير لابن أبي خيثمة (299)، ثم جاءت كتبٌ بعد الطبريِّ كثيرةٌ ومتنوِّعَةٌ.
وقد جرى فصلُ ما كُتِبَ في السيرةِ مِن هذه الكتب، وأُعيدَ طبعُهُ مستقلًّا؛ لأهميته وتسهيلًا للاطِّلاع عليه.
ومع كونِ كثيرٍ من الباحثين في مبادئ العلوم وعلاقاتها يَذهبون إلى أن السيرةَ النبويَّةَ جزءٌ وفرعٌ من علم التاريخ، إلَّا أن السيرة النبوية الكاملة تبدو أعمَّ في مادتها من وجه؛ حيث إنها لا تستند إلى أحداث زمنية مرتبة فحسب، وإنما تمتدُّ إلى سياقاتٍ علميةٍ تشريعيةٍ، وعمليةٍ سياسيةٍ، وتصرفاتٍ بشريةٍ، وشمائِلَ وخصائصَ ودلائلَ نبويَّةٍ، وفقهٍ حضاريٍّ عقديٍّ منهجيٍّ!
فهي أعمُّ من جهة استقصائها لجميع أحواله وتصرفاته وما يستفاد ويُستنبَطُ مِن الآداب النبوية والفوائد المصطفوية، كما أن استمدادَ مادةِ السيرةِ يَستوعِبُ القرآنَ وأسبابَ نزولِهِ، والحديثَ وأسبابَ ورودِهِ، وكُتُبَ الشمائل والخصائص والدلائل وغيرها.
كما أن علم التاريخ أعمُّ مِن حيثُ امتدادُه الزمانيُّ والمكانيُّ- من غير شكٍّ.
رابعًا: علاقة علم السيرة النبوية الكاملة بالشمائل والخصائص والدلائل:
الشمائل علم يَعتني بذكر المرويات في بيان أوصاف النبيِّ ، وأخلاقه الكريمة، وعاداته وآدابه الجليلة، وسلوكه الشخصيِّ الخاصِّ والعامِّ، وهديه وسمته في جميع شأنه- زوجًا، وأبًا، قائدًا، ومجاهدًا، عالـمًا، ومعلمًا، أخًا، وصاحبًا.
والشمائل مصنَّفَةٌ في كُتبِ أحاديثه . وللمحدِّثين سبقٌ وفضلٌ في التصنيف فيها، ومِن أوائِلِ ما صُنِّفَ: كتابُ وهب بن منبه (200هـ)، فهو أولُ مَن صنَّفَ كتابًا جمع فيه الشمائلَ وأسماه:(صفة النبي )، ثم علي بن محمد المدائني (270) في كتابه: (صفة أخلاق النبيِّ )، ومِن أشهرِ كُتُبِ الشمائلِ: كتابُ الترمذي (279): (الشمائل النبوية والخصائص المصطفوية).
ثم تتابعت بعد ذلك كتبٌ كثيرةٌ ككتابِ (الشفا) للقاضي عياض (544)، وكتاب: (الوفا بتعريف فضائل المصطفى) لابن الجوزي (597)، وكتاب: (الشمائل الشريفة) للسيوطي (911).
وهذه الكتب في الشمائل تقع مشتركةً بين علم الحديث الشريف من جهة، وعلم السيرة النبوية الكاملة من جهة أخرى، وهي جزء مِن كليهما، وعلاقتهما الخصوصُ والعمومُ المطلَقُ مع العِلمِينِ.
وأمَّا الخصائص فهو: العلمُ الذي يَعتني بذكر ما تفرَّدَ به النبيُّ عن غيره، سواءً عن إخوانه الأنبياء، مثل: ختم النبوة به، أو على صعيد الأحكام التي اختصَّ بها دون سائر أمته، كالزيادة على أربعِ زوجاتٍ، أو ما اختصَّتْ به أُمَّتُهُ دون سائر الأمم، مثل: حِلُّ الغنيمةِ لها، وأنها شاهدةٌ على من سبقها من الأمم، ونحو ذلك.
ومن أهم تلك المصنفات التي عُنِيتْ بالخصائص: كتاب: (غاية السول في خصائص الرسول ) لابن الملقن (804)، وهو موجَزٌ مقسَّمٌ على أساس فقهي.
ومنها: كتاب السيوطي (911) (كفاية الطالب اللبيب في خصائص الحبيب)، والمعروف باسم: (الخصائص الكبرى).
وعلم الخصائص- أيضًا- يقع مشتركًا بين علوم الحديث والسيرة، وربَّما اتَّصَلَ بعلم الفقه والأحكام بسببٍ.
وأما علم الدلائل فهو علمُ علاماتِ النبوةِ وآياتِ صدقِ الرسولِ ، وهو: علم يتضمن البشاراتِ بنبوته من الكتب السابقة، وما أَخبر به الكُهَّان والرُّهْبان من أمارات زمانه، وعلامات مكانه، وما ورد على لسانه من المغيبات التي حدثت في زمانه، وبعد زمانه .
ومن أهم كتب الدلائل: (دلائل النبوة) للفريابي(301)، ومنها: (أعلام النبوة) للماوردي (450)، ومنها: (دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة) للبيهقي (458)، وهو أوسعها وأشملها وأغزرها مادةً.
والدلائل كعلم نجده مبثوثَ المادةِ في كتب الحديث والسيرة، وربَّما اتصل بعلم العقيدة وكتاب النبوات منه بسببٍ- أيضًا- وهو- على كلِّ حالٍ- كسابقيه أخصُّ مِن علم السيرة النبوية الكاملة!
د. يسري إبراهيم
—————
(1) الصحاح، للجوهري (1/418).
(2) المختصر في التاريخ، للكافيجي (ص32).
(3) الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ، للسخاوي (ص7).
(4) مقدمة ابن خلدون (ص4)، ط: دار إحياء التراث العربي.
(5) مصادر السيرة النبوية، د. ياسر نور (ص240).
(6) وفيات الأعيان، لابن خلكان (4/191).
———
* المحاضرة الافتتاحية للمؤتمر العالمي الثاني للباحثين في السيرة النبوية
الذي نظم بفاس أيام 28-27-26 محرم 1436 الموافق 22-21-20 نونبر 2014.