شــؤون صـغـيــرة – درس من جورجي زيدان


في أوائل القرن العشرين كانت المعارك تحتدم بين المفكرين والأدباء، وكانت تبلغ من العنف أحيانا حدا كبيرا. وكان بعضها ذا طابع أدبي ثقافي خالص، وبعضها ذا طابع اجتماعي أو سياسي. وكأن تلك المعارك كشفت لنا عن أننا قوم لا نعرف الاعتدال. فنحن إذا أحببنا تطرفنا في الحب، وإذا أبغضنا تطرفنا في البغض، وننسى أو نكاد ننسى التوجيه النبوي الشريف: (أحبب حبيبك هونا ما…. وأبغض عدوك هونا ما…). ومن الملاحظ أن ذلك العنف كان يظهر حتى بين طرفين يمثلان تيارا مذهبيا فكريا واحدا، مثل ما كان بين العقاد والرافعي، فكلاهما ينتصر للإسلام والثقافة الإسلامية، وإن كان العقاد ينتصر للتجديد والرافعي ينتصر للمحافظة. وقد أسفر ذلك العنف في القول عن آثار منها كتاب الرافعي: (على السفود)، حيث يسعى إلى أن يشوي العقاد على سفوده شيا.
وكثيرا ما كان التجديد مقترنا بالإقبال على الغرب، والمحافظة متمثلة في المحافظة على الأصول. ومن تلك المعارك المشهورة ما دار حول المرأة، ولاسيما بعد ظهور كتاب قاسم أمين:(تحرير المرأة)، حيث لم يبق قلم شاعر أو كاتب إلا كان له في القضية نصيب. وأهل العلم يعرفون أن الكتاب أصلا إنما هو للشيخ محمد عبده، ولكن قاسما كان القناع الذي ظهر من خلاله. وكان من شأن ظهور الكتاب باسم الشيخ محمد عبده أن يثير زوبعة أعظم، إذ كان الشيخ ممثلا للأزهريين، وإن لم يتول المشيخة، والأزهر بطبعه ــ في العصور المتأخرة ــ أحرص على المحافظة، أو أحرص على السير في ركاب الحكام، وكان يفترض فيه أن يكون حصن المجتهدين. وإذا فحصنا كتاب (تحرير المرأة) وجدنا أنفسنا لا نطلب للمرأة المسلمة أكثر مما طلبه هذا الكتاب، وإن كان قاسم أمين في كتابه التالي) المرأة الجديدة) قد ذهب شوطا بعيدا، وخرج على بعض الأصول، واتخذ المرأة الغربية مثالا. وقد جاء المرحوم عبد الحليم أبو شقة في كتابه: (تحرير المرأة في عصر الرسالة)، بما لم يأت به قاسم أمين، ولكن من خلال القرآن الكريم والصحيحين، ولكن أكثر الناس لا يقرؤون.
وقد انشق الناس ــ أعني أهل الشأن ــ فريقين في تلك القضايا، وصدرت أحكام على هؤلاء وهؤلاء، وبلغ الأمر حد التفسيق أو التكفير، وبقيت الأجيال بعد ذلك تردد تلك المقولات دونما نظر فعلي، وقد قرأتْ شيئا عن الأعلام، ولم تكد تقرأ شيئا للأعلام. وشهدنا في العهد الأخير بعض المحاولات التي تسعى إلى الإنصاف من خلال إعادة قراءة تراثنا الحديث، مثل ما فعل الدكتور محمد عمارة الذي أراد أن ينهي الجدل القائم حول طه حسين منذ حوالي قرن من الزمان، فكتب كتابه: (طه حسين من الانبهار بالغرب إلى الانتصار للإسلام)، وقد قال أهل العلم الأول: (المعاصرة حجاب)، فما أحرانا أن نعيد النظر في ذلك التراث الحديث بعيوننا لا بعيون الآخرين، وإن علا شأنهم وكبر قدرهم، وأن نتحرر من بعض الأحكام الجاهزة التي أملاها التعصب وليس الحق، وقد قال شوقي:
صور العمى شتى وأعظمها إذا
نظرت بغير عيونهنّ الهـــامُ
لقد شاع رأي بين المنتصرين للإسلام أن جورجي زيدان قبطي تبشيري حاقد على الإسلام، وأن رواياته التي سماها: (روايات تاريخ الإسلام)، شاهدة على منهجه الذي يقوم على الدس والكيد والنيل من رموز الإسلام وأبطالهم، حيث يصورهم متهالكين على متع الحياة الدنيا الرخيصة، فمنع ذلك كثيرا منا أن يطلع ــ مجرد اطلاع ــ على تراث هذا الكاتب، عسى يجد وسط الزؤان جوهرة.
والحكمة ضالة المومن، أنى وجدها فهو أحق بها، وطلب العلم فريضة ولو كان مرجعه إلى الصين، والتقصير في طلب العلم خطيئة.
إن مناسبة هذا الحديث هو عودة إصدار كتاب جورجي زيدان: (رحلة إلى أوربا)، وهو كتاب يتخذ موضوعا له رحلة قام بها الكاتب عام 1912 إلى كل من فرنسا وبريطانيا وسويسرا، وقد قال في التمهيد: «وتوخينا النظر ــ على الخصوص ــ فيما يهمّ قراء العربية من أحوال تلك المدنية التي أخذنا في تقليدها منذ قرن كامل (ونقول اليوم: منذ قرنين كاملين)، ونحن نتخبط في اختيار ما يلائم أحوالنا منها…
ونقتصر من ذلك على ما يهمّ القارئ الشرقيّ من حيث حاجته إلى تحدّي مدنية أولئك القوم في نهضتهم هذه، ونبين ما يحسن أو يقبح من عوامل تلك المدنية بالنظر إلى طبائعنا وعاداتنا وأخلاقنا». (ص. 5 من الكتاب)
فلم يكن حديث جورجي زيدان عن رحلته تمجيدا للمدنية الغربية فقط، بل كان نظرة فاحصة تراعي الاستفادة منها بما لا يخالف عاداتنا ومقوماتنا. كما أنه سجل في رحلته السلبيات التي تطبع مدنية الغرب، وحذر من اتباعها. ومما لا شك فيه أنه كان معجبا بنابليون بونابارت وما خلفته حملته على مصر من نهضة علمية وفكرية وأدبية، إلا ان ذلك لم يمنعه من تسجيل بعض سلبيات تلك الحملة. وقد أنهى الفصل الخاص بفرنسا بخلاصة، أحب ان أشرك القارئ فيها لأهميتها، فأعطي القوس باريها. قال:
(في مدنية فرنسا وغيرها من مدنيات أوربا حسنات كثيرة يجب علينا اقتباسها والاستفادة منها، ولكن فيها سيئات يجب تجنبها والابتعاد عنها. فالحسنات التي يحسن بنا اقتباسها هي:
1 ــ معرفة الواجب.
2 ـ المحافظة على الوقت وصدق المواعيد.
3 ــ تهذيب أخلاق العامة بالتربية الصحيحة.
4 ــ تعليم المرأة وتثقيفها.
5 ــ ترقية التعليم والتوسع في الآداب.
6 ـ العمل والجد.
أما ما يجب علينا تجنبه من أدران تلك المدنية فاهمّه:
1 ـ الإفراط في الحرية واستخدامها في غير موضعها.
2 ـ ما يخالف الحشمة الشرقية، على أن نأخذ من العلم والتربية القدر الملائم لعاداتنا.
3 ــ الفتور في الدين والمجاهرة في الكفر، فإنه من أسس ذلك الخراب.
فبالله عليكم يا أهل الحق، أتجدون نصيحة تنفعنا، تتعلق بالمدنية الغربية وواقعنا الإسلامي المعاصر، أفضل من هذا الذي سطره جورجي زيدان في رحلته إلى أوربا؟

يلتقطها د. حسن الأمراني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>