العلماء هم ورثة الأنبياء، الذين تعلّموا العلم وعقلوه وعَمِلوا به، وعلَّموه لغيرهم بإخلاص لا يريدون بذلك إلا وجه الله تعالى، مُنيبين إليه مخلصين مستقيمين له عز وجل، مستحضرين في ذلك خشية الله دون أحد سواه: الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ، وَكَفَىٰ بِاللَّهِ حَسِيبًا (الأحزاب 39)، فاستحقوا بذلك أن يدخلوا في تلك الزُّمرة الطيبة العالية المُخْلصة التي خصَّها الله تعالى بالخشية التامة في قوله عز وجل: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر:28)،
قال ابن كثير : أي “إنما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القديم أتم، والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر”.
وعَنْ علي بن أبي طالب ُ أنه قَالَ : ” إِنَّ الْفَقِيهَ حَقَّ الْفِقهِ، مَنْ لَمْ يُقَنِّطْ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يَدَعْ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، إِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا عِلْمَ فِيهَا، وَلَا عِلْمٍ لَا فَهْمَ فِيهِ، وَلَا قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا “.
ومَعْنَى هذا أن مِن مُقدّمات خشية الله سبحانه وتعالى، العلمَ به عز وجل حَقّ العلم، والرسوخَ فيه بشكل كبير، لأنه بحصول هذا العلم تحصل تلك الخشية المستمرة لله، تلك الخشية التي تقود إلى الإيمان المطلق بما أنزل الله سبحانه وتعالى والتسليم به: والرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الاَلْبَابِ (آل عمران : 7). وعلى هذا الأساس تتولد الربانية في العلم، التي يمكن أن نقول إن من بين أبرز سماتها:
< تطبيق القول بالعمل، إذ لا يمكن أن يكون العالم قدوة وهو يقول مالا يفعل؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾(الصف:2-3). وإذا كان هذا المبدأ يشمل عموم المؤمنين فإنه في العلماء أولى وأدْعَى؛ سُئل ابن الأعرابي –وهو أحد علماء اللغة- عن معنى الربَّاني في اللغة، فقال: “لا يقال للعالم رباني حتى يكون عالماً مُعلِّماً عاملاً”، وقال أيضا: “إذا كان الرجل عالما عاملا معلما قيل له هذا رباني فإن خرم عن خصلة منها لم نقل له رباني”.
< التَّمسُّكُ بمنهاج النبوةِ قولاً وفعلاً وسلوكاً، والابتعاد عن كل ما يشين مكانة العلم في الشخص. ومن تجليات التمسك بمنهاج النبوة فِقْه الواقع بعد فقه الدين، إذ لا تنزيل لمقتضيات الوحي على الواقع دون معرفة هذا الواقع، فرُبَّ داع إلى الله مُنَفِّرٍ منه، ورُبَّ مُحَدّث عن الله محاربٍ له.
< الصبرُ مع الناس جميعِ الناس، والنصحُ لهم مهما اختلفت شرائحهم وتعددت مستوياتهم، واليقينُ في الله سبحانه وتعالى بأنه هو الناصر المُعين؛ قال بعض الصالحين: “بالصبر واليقين تُنال الإمامةُ في الدِّين”.
< بيانُ الحقِّ، وتبليغهُ للنَّاسِ بالتي هي أحسن وفق منهج سديد ورؤية قويمة، دون إفراط أو تفريط.
إلى غير ذلك من الصفات التي هي من سمات المؤمنين العالمين العاملين.
وبالتأكيد فإن هذا الصنف من العلماء لا يخلو منهم مكان ولا زمان، وفي مقدمة ذلك بلدنا هذا حماه الله جل وعلا من الفِتِن، وأمَّنه من الإحن، وحفظه من البلاء، لكن مع ذلك فإن الأُمةَ مدعوةٌ إلى التكوين الرصين لهؤلاء العلماء الربانيين حتى يتمكنوا من بناء الجانب الروحي في أبناء هذه الأمة، والتصدي لدعاة الفتن على اختلاف أشكالها وأنواعها، خاصة في زمننا هذا الذي كثر فيه الانحراف والابتعاد عن القيم الحقيقية للدين.