كعـب بن زهير ولاميـته “بانت سعاد”


لعلّ من عُيون الشعر العربي، في باب المديح النبوي، قصيدة “بانت سعاد” التي أنشدها كعب بن زهير بين يدي النبي معتذراً ومادحاً، بعد ما كان قد أهْدَر دمه – لشعرٍ صدَرَ عنه يحمل إساءة ظاهرة للدعوة الجديدة ولصاحبها وللمؤمنين بها كذلك –، وقال لأصحابه؛ كما ورد في “الأغاني” مثلاً: “مَنْ لقيَ منكم كعْباً فلْيَقتُلْه”. وقد تبوّأت هذه القصيدة الكعبية مكانة رفيعة في تاريخ الشعر العربي الإسلامي قديماً وحديثاً، فاحْتُفيَ بها ألواناً شتى من الاحتفاء؛ على نحْو ما سنرى لاحقاً، وأعْجب بها الناسُ إعجاباً بلغ ببعضهم حَدَّ التبرُّك بقراءتها. وقبل خَصِّ هذا النص الجميل بوقفة، لا بأس من البدء بالترجمة لصاحبه بإيجاز كالآتي:
1 – نُبْـذة عن كعب بن زهير :
لا تقدّم لنا كتب التراجم والسِّير والأدب معلومات وافية ودقيقة عن تاريخ ولادة كعب، ولا عن تاريخ وفاته كذلك. ولكنّ الثابتَ أنه جاهليٌّ أدرك الإسلام، فهو– إذاً– من المُخَضْرَمين، توفي في إمْرَة معاوية بن أبي سفيان (41 – 60 هـ)، الذي بذل له مالا وفيراً مقابلَ الحصول على البُرْدة التي أعطاها النبي لكعب حين أنشده “بانت سعاد”، ولكنه أبى واستمسك بتلك الهدية النبوية الغالية. ولما توفي كعب، ألحّ معاوية في الحصول عليها من ورثته، فباعوها له مقابل 20 ألف درهم، وكان الخلفاء الأمويون يلبسونها في العيدين؛ كما رُوي عن أبان بن عثمان بن عفان.
كعبٌ هذا هو ابنُ الشاعر الجاهلي المعروف زهير بن أبي سُلْمى؛ صاحبِ “الحَوْليات” والأشعار الحِكْمية الحَصيفة والمعلقة الشهيرة، من قبيلة مُزَيْنة. وقد كان شاعراً “فحلا مُجيداً، وكان يحالفه أبداً إقتار وسوءُ حال”؛ كما ذكر ابن قتيبة الدينوري (ت 276هـ) في “الشعر والشعراء” (1/153). وَضَعه ابن سلاّم الجُمَحي (ت 231هـ) في الطبقة الثانية من الشعراء الجاهليين، بعد أوس بن حجر بن عتّاب وبِشْر بن أبي خازم، وقبل الحُطيئة الذي عُرف عنه رواية أشعار آل زهير، واعترافُه بشاعرية كعب وبمكانته المتقدمة في دنيا الشعر العربي، وهذا ما يكشفه قوله مخاطباً كعْباً: “قد علمتَ روايتي شعرَ أهل البيت وانقطاعي إليكم، وقد ذهب الفُحول غيري وغيرُك، فلو قلتَ شعراً تذكر فيه نفسَك، وتضعُني موضعاً بعدك، فإن الناس لأشعاركم أرْوى، وإليها أسْرع، فقال كعب:
فمَن للقـوافي شانها مَنْ يحوكُها
إذا ما ثوَى كعْـبٌ وفوَّز جَـرْوَلُ؟
يقـول فلا يَعْـيَى بشـيءٍ يقــــوله
ومن قائليـها مَن يُسـيء ويَعـملُ
كفيْـتُك لا تلقى من الناس واحداً
تنخَّـلَ منها مثـلَ ما يتنخّــــــــلُ
يُثقـفها حتى تَلــين متـــــــــونُها
فيَقصُــر عنـها كلُّ ما يُتمثّــــــلُ”
(طبقات فحول الشعراء، 1/104 – 105)
وكعبٌ، كذلك، شاعر بدوي مطبوع، كان له اقتدارٌ عجيب على قول الشعر على البديهة والارتجال، من غير استعداد أو تهيئة قبلية. وكان أبوه أستاذَه الأول، في هذا الإطار؛ فقد أجازه بقرْض الشعر لمّا استيْقن من شاعريته وتأكَّد، بعد سلسلة من الاختبارات العملية التي تَرْويها لنا كتب الرُّواة والأخباريين. ومشياً على عادة الأقدمين في اشتراط بعض الشروط لحصول المَلَكة الشعرية لدى الشاعر، فقد بدأ كعب بحفظ آلاف من الأبيات، ورواية أشعار الفطاحل، وفي مقدمتهم زهير بن أبي سُلمى نفسُه، الذي كان “مدرسة” في الشعر العربي على عهد الجاهلية، وكان كعب واحداً من خِرِّيجيها المتألقين. والواقعُ أن قول الشعر كان متأصِّلاً في بيت زهير وأجداده وأبنائه، ممتدّاً فيه عبر كثير من حلقاته وأفراده. قال ابن سلام: “ولم يزل في وَلَد زهير شعر. ولم يتّصلْ في وَلَد أحدٍ من فُحُول الجاهلية ما اتّصل في ولد زهير، ولا في وَلَد أحدٍ من الإسلاميين ما اتصل في ولد جَرير” (1/110). وبالفعل، فقد كان والد كعب شاعرا جِهْبذاً، وكان جده المكنّى بأبي سُلمى شاعراً، وعمتُه شاعرة كذلك، وخالُ أبيه بشامة بن الغدير شاعراً مُجِيداً. وكان أخوه بُجَيْر شاعراً، وابنه عقبة المُضرَّب شاعراً، وحفيدُه العوّام شاعراً أيضاً.
فكعب، إذاً، سليلُ بيتِ شعرٍ عريق، كان ذا إشعاع في الجاهلية وصدر الإسلام معاً؛ الأمرُ الذي ترك أثراً مؤكّداً في الشاعر، وأعان على تفتيق موهبته الشعرية مبكراً. وقد أكثر كعب من قول الشعر في غرض الوصف حتى عُدَّ من الشعراء الوصّافين الكبار؛ إذ برع في وصف الذئب على غرار الشنفرى وحُمَيْد بن ثور الهلالي والشريف الرضي وآخرين ممّن عُرفوا في هذا المجال، ووصَف، أيضاً، الناقة والصيد ووَحيش الصحراء، فضلاً عن موصوفات أخرى كثيرة. على حين قلَّ شعره في الأغراض الأخرى؛ من مدح، وهجاء، ورثاء… وشعرُه الغَزَليّ لم يكن يتجاوزُ مطالع جملة من قصائده؛ إذ لم يُعرف عنه إفراد قصائد بأكملها لموضوع الغزل أو النَّسِيب. ولا مناص من الإشارة، ها هنا، إلى أن قدْراً من شعر كعب قد ضاع؛ كما يؤكد عددٌ من الدارسين، ولا سيما ذلك الذي قاله، قبل إسلامه، في التعرض إلى الدين الإسلامي والنبي وصحابته الكرام. ويتضح لِمَنْ يتصفح مجموع أشعاره، المُتضَمَّنة في ديوانه المطبوع، أن تحولا مفصلياً طال شعره، بعد أن أسلم وحسُن إسلامه، إذ أضحى يصدر فيه عن عقيدته الجديدة؛ فجاء مليئاً بالحكم والمواعظ والقيم المُثلى التي أدِبَ إليها الإسلام.
ولإسلام كعب قصة معروفة ترويها مظانّ كثيرة بإفاضة؛ كما في السِّفْر السابع عشر من”الأغاني” لأبي الفرج الأصْبَهاني(ت 356هـ)، وفي الجزء الأول من”الشعر والشعراء” لابن قتيبة… إذْ نقرأ في هذا الأخير الخبَر الآتي عن إسلام كعب، وكيفية حصوله ومكانه وما رافَق ذلك من ملابَسات ووقائع: “كان أخوه بُجير أسلم قبله، وشهد مع رسول الله فتْح مكّة، وكان أخوه كعب أرسل إليه ينهاه عن الإسلام، فبلغ ذلك النبي ، فتواعده، فبعث إليه بجير فحذّره، فقدِم على رسول الله ، فبدأ بأبي بكر ، فلَمّا سلَّم النبي من صلاة الصبح جاء به وهو متلثِّمٌ بعمامته، فقال: يا رسول الله، هذا رجلٌ جاء يُبايعُك على الإسلام، فبسَط النبي يدَه، فحَسَر عن وجهه، وقال: هذا مقام العائذ بك يا رسول الله، أنا كعب بن زهير، فتجهّمتْه الأنصار وغلَّظتْ له… وأحبّت المُهاجِرَة أن يسْلم ويُؤمنه النبي ، فأمّنه، فأنشده: بانت سعاد (القصيدة)”. (1/153)
2 – وقفـة مع قصـيدة “بانت سـعاد”:
إن هذه القصيدة الكعبيّة نَتاجُ – كما قلنا قبل قليل – سياق محدّد يجعلنا نُدْرجها ضمن فن “الاعْتِذاريات” في الشعر العربي؛ بحيث أنشدها صاحبُها بين يديْ رسول الله ، وبحضور عدد من الصحابة الكرام، داخل المسجد، عقب صلاة الصبح؛ وذلك بعد اقتناعه بضرورة القدوم على النبي ، الذي كان قد أهدر دمه ودمَ مجموعة من الشعراء المشركين الذين كانوا يُؤذونه ويؤذون أصحابه، وإعلان توبته، وطلب العفو، لا سيما بعد توصُّله برسالة من أخيه بُجَيْر الذي سبق إلى الإسلام، يَحثه فيها على أنْ يقصد سريعاً النبي تائباً نازعاً، ويُبشّره بأنه يقبل توبة مَنْ جاءه يطلب الصفح. وإذا لم يُلبِّ الدعوة، فإنه يظل عرضة، في أي حين، لملاقاة المصير الذي لقيه شعراء الشرك الآخرين الذين كان النبي قد أهدر دمهم. فقد جاء في نصّ الرسالة التي بعث بها بجير إلى أخيه كعب؛ كما وردت في شرْح السُّكّري على ديوان كعب، ما يأتي: “إن النبي يهمّ بقتل مَنْ كانوا يُؤذونه من شعراء المُشركين، وإنّ ابن الزِّبَعْرى وهبيرة بن أبي وهب قد هربا؛ فإنْ كانت لك في نفسك حاجة فاقْدم على رسول الله ، فإنه لا يقتل أحداً جاء تائباً، وإنْ أنتَ لم تفعل فانْجُ إلى نجائك من الأرض”. ولمّا توصل كعب بكتاب أخيه هذا، فكّر مليّا، وأدرك أنه مقتول لا محالة وأنه لا مَهْرب له، ارتأى أن يَنْتَصِح بنصيحة أخيه، فأتى النبيَّ مُبايِعاً ومُعْتذِراً بهذه القصيدة؛ فقبل توبته، وأمنه، ورحّب به المهاجرون، إلا أن بعض الأنصار غلّظوا له، وهمُّوا بقتله، ولكنّ النبي منعهم من ذلك؛ لأن الإسلام يَجُبُّ ما قبله. وثمة حالاتٌ أخرى شبيهة بحالة كعب في علاقتها بالدين الجديد، منها حالة الشاعر أنس بن زنيم الكناني الذي كان قد هجَا النبي ، فأهْدَر دمه؛ الأمرُ الذي جعله يقْدم عليه معتذراً بداليّةٍ ممّا ورد فيها قولُه في مدح الرسول:
فما حملَتْ من ناقةٍ فوق رَحْلها
أبـرَّ وأوْفـى ذِمّــةً من مُحَمَّـــد
فعفا عنه النبي .
تقوم قصيدة “بانت سعاد” على ثلاث وَحْدات دلالية كبرى. فأما أولاها فتستوي على الاثني عشر بيتاً الأولى من القصيدة، وموضوعُها غزلي، يتمحور حول “سعاد” التي بانت ورحلت بعيداً عن الشاعر، دون أن تحفظ العهد الذي عاهدت عليه حبيبها، وهو الوصال طَوالَ أيام حياتهما، ودون أن تراعيَ مشاعره إطلاقاً؛ الأمر الذي آلَمَهُ وترك في أعماقه جرحاً غائراً. وقد يسأل أحدُنا هنا: ما موقع هذا الغزل في قصيدة موجهة، أساساً، لمدح النبي ، والاعتذار إليه؟ الواقع أن كعباً لا يقصد، هنا، الحديث عن فتاة بعينها، والتغزل بها أيّا كانت طبيعة هذا التغزل، بل إن ذلك تقليد فنّي ليس إلاَّ، درَجَ عليه شعراء العرب منذ الجاهلية، لعدة اعتبارات تطرّق إلى بيانها كثير من نقادنا قديماً وحديثاً. إذ كان من شروط المدائح لديهم أن تُسْتهَلَّ بالغزل؛ كما أكد أبو الطيب المتنبّي (ت 354هـ) بقوله: “إذا كنتَ مادحاً فالنّسـيبُ المُقدَّم”.
وأما الوحدةُ الثانية فتمتدّ على الأبيات التسعة عشَر الموالية، وفيها يصف كعب، وصفاً مفصّلاً، الناقة بتوظيف معجم يمتح مفرداته من قاموس الجاهليين. وكان هذا أيضاً مظهراً من مظاهر القصيدة العربية القديمة التي كان يلي فيها المقدمة الغزلية أو الطلَلية مقطعٌ شعري يُخصَّص لوصف الرحلة والراحلة، قبل الانتقال إلى الغرض الرئيس الذي من أجله نُظِمَت القصيدة.
وأما الوحدة الأخيرة فهي محورُ القصيدةِ رُمَّتِها، وإنْ تأخّرتْ من حيث ترتيبُها. وفيها يمدحُ كعب النبيَّ بجملة من خِصاله وصفاته؛ كالعفو عن المُسيء، والدعوة إلى الهداية، والعدل بين الناس. ويُعلن أمام الحاضرين جميعاً توبته ومبايَعَته الرسولَ ، وأنه لم يُذْنِب ولو كثرت عنه أقاويل الوُشاة والحُسَّاد. ومن أبرز أبيات الوحدة قوله: [من البسيط التامّ]
إنّ الرسول لَسَيفٌ يُسْتضاءُ بهِ
مُهنَّــدٌ من سُيـوف الله مسْـلولُ
ويظهر فيها، بجلاء، مدى تأثر كعب بالدين الجديد، كما نلمس في بعض أجزائها الطابَع الحِكْميّ الذي يذكّرنا بأشعار أبيه زهير. ومثالُ ذلك قوله:
فقـلتُ: خَلّـوا طريقي، لا أبا لكــمُ
فكـلُّ ما قـدّر الرحمـنُ مفعـولُ
كلُّ ابن أنثى، وإنْ طالت سلامتهُ
يوماً على آلـةٍ حَـدْباءَ محمــولُ
وخصَّ كعب، كذلك، المهاجرين بأبيات مَدَحَهم فيها بالبسالة، والاستماتة في الدفاع عن الإسلام، والإقبال على الاستشهاد في سبيل الله تعالى دون خوف. على حين لم يفعل ذلك قطّ مع الأنصار، بل عرَّض بهم؛ لأنهم غلّظوا له، وقاموا لقتله، حينما جاء النبيَّ معتذراً كما قلنا. إلا أن قريشاً (المهاجرين) أنكرت عليه ذلك، وقالت: “لم تمْدحنا إذ هجوتهم”، فقال فيهم رائيةً يمدحهم، ممّا ورد فيها:
مَنْ سَرّه شرفُ الحياة فلا يزلْ
في مِقْـنبٍ من صالِحِي الأنصار
الباذِلـين نفـــوسَـهم لنبيّـــــهم
يومَ الهـــياج وســطْـوة الجــبّار
يتطهّـــرون، كأنه نُسُــكٌ لهــم،
بدماء مَــنْ عَلقــوا من الكـــــفار
وقد أعجب النبي ، أيَّما إعجاب، بقصيدة “بانت سعاد”، فأجاز كعباً عليها بأنْ أعطاه بُردة كانت على جسده الشريف، وزاد على ذلك بأنْ منحه مائةً من الإبل؛ كما ورد في كثير من المصادر، وعُدَّ ذلك حجّة في جواز تقديم جوائز إلى الشعراء لقاءَ شعرهم الذي يستحقّ ذلك طبعاً. ولهذا أطلق على تلك القصيدة اسم “البردة”، وظلت واحدةً من أجود “القصائد المُلقَّـبات” في تاريخ الشعر العربي. ولما نازعَتْها ميميّة البوصيري (ت 696هـ) هذا اللقبَ، صارت أعْرَفَ بين الناس باسم “قصيدة بانت سعاد”. وإن البردة التي مُنحت لكعب جائزةً، ظلَّ – طَوالَ حياته – محتفِظاً بها، رافضاً العرْضَ المالي المُغْري الذي قدّمه معاوية مقابلَ بيعها له. ولكنّ إصراره على الحصول عليها آتى أكْلَه بعد وفاة كعب؛ إذ إنه سيَشتريها بمال وفيرٍ من بَنيه، وكان هو –وخلفاء بني أمية بعده – يلبسونها في العيدين. وذكر جُرْجي زيدان، في كتابه “تاريخ التمدُّن الإسلامي”، أن هذه البردة انتقلت إلى العباسيين، وظلوا يرعونها إلى حين سقوط بغداد في يد التّتار، أواسطَ القرن الهجري السابع؛ فقيل إنها وقعت في أيدي هؤلاء الغزاة المُخرِّبين فأحرقوها، وقيل إنها أُخفِيَتْ عنهم ونُقلت إلى مصر، وكانت في كِلاءة سَلاطينها هناك، إلى أنْ استولى العثمانيون على أرض الكنانة، فأخذوها إلى عاصمة دولتهم لتُحفظ مع باقي الآثار النبوية التي يحتفظون بها هناك.
إن قصيدة كعب، كما رأينا، تمتاز بتعدد أغراضها وموضوعاتها؛ إذ نُلفي فيها غزلاً ووصفاً ومدْحاً. وقد سبق لطه حسين أن وقف عند هذه النقطة وفصَّل القول عنها في الجزء الثاني من كتابه “حديث الأربعاء”. وكعب، في هذا الإطار، إنما يسير على نهج القصيدة العربية القديمة من حيث بناؤها العامّ. كما أنها تُذكر، باستمرار، ضمن شعر الاعتذار في أدبنا، بوصفها أنمُوذجاً ناجحاً له. وتجدر الإشارة إلى أن رفوف المكتبة النقدية العربية تحتفظ بجملة من الأبحاث والدراسات في هذا الفن الشعري العريق؛ مِنْ مِثْل كتاب “الاعتذاريات في الشعر العربي حتى نهاية العصر العباسي: عرض ودراسة ومقارَنة” لمحمد مختار جمعة (1994)، وكتاب “الاعتذاريات بين النابغة الذبياني وعلي بن الجَهم” لمحمد أحمد حجازي (2005)، وكتاب “اعتذاريات الشعراء للرسول صلى الله عليه وسلم” الصادر حديثاً، وبحْثِ “الاعتذاريات في الشعر العربي من عصر ما قبل الإسلام إلى نهاية العصر الأموي” لمحمود عبد الرزاق أحمد العاني؛ وهو عمل أكاديمي أعدّه الباحث لنيل درجة الدكتوراه من كلية الآداب – جامعة بغداد، عام 1988، بإشراف د. عناد غزوان إسماعيل.
إنّ “بانت سعاد” تعد، في واقع الأمر، من أكثر القصائد العربية حِظَةً باهتمام الدارسين والأدباء، في القديم كما في الحديث، متنا وسندا وخبرا. ومن مظاهر هذا الاعتناء بها تأليفُ شروح حولها ما بين مفصّل ووسيط ووَجيز، بلغت 76 شرحاً؛ حسبما ذكر أحمد الشرقاوي إقبال في كتابه القيّم “بانت سعاد وإلمامات شتّى” (1991)؛ منها شرحُ أبي سعيد السكري، المتوفى سنة 275 هـ، وهو أشْهَرُها، وشرحُ التبريزي، وشرح الجلال السيوطي، وشرح محمد البطاوري الرباطي. وكتب بعضهم معارضات عليها، تُحاكيها لغة وإيقاعا ومضموناً أحياناً؛ من مثل معارضة الشّمّاخ بن ضرار، ومعارضة الإمام البوصيري، ومعارضة ابن الضائع الأندلسي، ومعارضة أحمد فارس الشدياق. ومنهم شعراء قلّدوا القصيدة الكعبية في مُفْتَتَح قصائدهم؛ على نحْو ما فعل، مثلا، قيس بن ذريح (ت 68هـ) في لاميته التي أولُها:
بانت سعاد فأنتَ اليومَ متبول
وإنك اليـوم بعد الحـيّ مَخْـبول
ولنا في الشعر العربي والإسلامي عدة تشطيرات وتخميسات على “بانت سعاد”؛ منها تشطير الرافعي الطرابلسي، وتخميس السهروردي الصوفي. ولم يقتصر الاحتفال بهذه القصيدة على العرب، بل اعتنى بها غيرُهم كذلك؛ كالفرس والمستشرقين، وتُرْجِمت إلى لغات كثيرة، شرقية وغربية.

د. فريد أمعضشـو

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>