يتيمُ العلم والأدب!


الخطبة الأولى:

أما بعد، عباد الله، كلكم يعرف معنى اليتيم.. فهو من فقد أباه أو أمه وهو صغير..

ونحن نعلم كم لفقد الوالدين أو أحدهما من لوعةٍ في النفس، ووحشةٍ في الحياة، لا يطيقها الصغير، فما زال قلبه طرياً يتأثر لهذا الفقد، وما زال جسمه صغيراً لا يتحمل مشاق الحياة ومعاناتها، ومن هنا كان لزاماً على المجتمع المسلم القيام بالواجب نحو هذا اليتيم وإيفاؤه حقه من الرعاية والتربية والحفظ، وتوفير الحنان له والرفق بحاله.

فإن لليتيم حقاً على أهله وذويه، حقاً كفله الشرع الكريم ونادى إليه، وبين لنا القرآن الكريم حق اليتيم وخطورة التعدي على حقوقه، وأوضح لنا النبي  شرف كافل اليتيم، وما يجنيه المسلم من أجور وحسنات إن هو اعتنى باليتيم ووفر له عيشة كريمة، فكفالته من أسباب دخول الجنة…

ولكن أيها المؤمنون ما ظنكم بمن يصدق عليه مسمى اليتيم وهو يعيش بين والديه، هو يتيم مع أنه يرى والده كل يوم، هو يتيم وما زالت أمه تعيش معه، هو يتيم في منزل أبويه، يتيم وإن أكل من كسب والده، هو يتيم وإن تناول من طبخ والدته، يتيم لا يلقي له الناس بالاً ولا يرونه محلاً للشفقة والحنان، يتيم لا يؤبه له ولا يرفع له رأس، فالناس يرونه بين والديه فلا ينطبق عليه مفهوم اليتيم في عرفهم، فمن يا ترى هذا اليتيم؟ وكيف استحق هذا الوصف المخصوص بمن فقد والديه؟

عباد الله، إن الجواب عن هذا التساؤل قد تولاه الشاعر حين قال:

ليس اليتيم الذي قد مات والده     ***     إن اليتيم يتيـم العلم والأدب

وهو الذي عناه الآخر بقوله:

ليس اليتيم من انتهى أبواه من     ***     هـمّ الحياة وخلفاه ذليــلا

إن اليتيـمَ لمـــن تَلقى له     ***     أمـاً تخلت أو أباً مشغـولا

فعنوان خطبةِ هذا اليوم الأغر السعيد: يتيم العلم والأدب !

أيها المسلمون :

كم طفل نشأ بين والديه، لم يستفد منهما غير الطعام والشراب؟!

كم طفلٍ تربى في غير أحضان والديه؟! كم طفل تولى تربيته الشارعُ بخيره وشره؟!

كم طفل أهمله والداه فشب على العقوق والقطيعة؟!

كم صغير عقه والداه صغيراً فجنيا النتيجة منه وهو كبير؟!

كم ولد عاق سبقه أبوه بالعقوق في حقه حين لم يتول تربيته وتعليمه وحفظه؟!

كم والد لا يدري أين يدرس ابنه؟ كم والد لا يعرف أحداً من معلمي ولده!؟ كم والد لا يبالي مع من ذهب ابنه؟ كم والد كان همه مُنْصباً على تغذية أولاده بالطعام والشراب وتأمين الملبس والترفيه، وغَفَلَ عن تغذية الروح وسلامة القلب؟

كم أم انشغلت بوظيفتها وزياراتها عن تربية أولادها؟ كم من والدة وكلت أمر التربية للعاملة المنزلية، فتحولت بقدرة قادر من خادمة إلى أم بالوكالة؟!

أيها المؤمنون، لا ريب ولا جدال في أن الأسرةَ أهمُّ مؤسسة تربوية وأخطرُها مسؤولية، وأن الوالد يقوم على هذه المؤسسة، فمتى فسد القوام عم الفساد جميع الأقوام، يقول علي : علموا أنفسكم وأهليكم الخير وأدبوهم. ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أدب ابنك فإنك مسئول عنه ماذا أدبته وماذا علمته، وهو مسئول عن برك وطواعيته لك.

وقبل ذلك وفوقه كلام رب العالمين: ياٰأَيُّهَا ٱالَّذِينَ ءامَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ (التحريم : 60).. فيا من يرحم صغيره أن يمسه شيء من الأذى هذا اليوم، ألا تخاف عليه ناراً حامية تحرق الناس والحجارة يوم القيامة؟ وما شعورك حينذاك حين تتذكر أنك سبب في دخوله النار والعياذ بالله تعالى.

عباد الله، الأمر ليس بالهين، فالأولاد أمانة، وزماننا يشهد من الفتن والمغريات ما يَشيب لهوله الولدان، ويا سعادة من أكرمه الله بصلاح أولاده فهو في سعادة وحبور لا يوصف، وهو محل للغبطة من الآخرين، سئل الحسن البصري رحمه الله تعالى عن قوله تعالى: رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْواجِنَا وَذُرّيَّـاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ (الفرقان : 74)، ما هذه القرة الأعين أفي الدنيا أم في الآخرة؟ فقال: لا بل والله في الدنيا! قيل ما هي؟ قال: والله أن يري الله العبد من زوجته، من أخيه، من حميمه طاعة الله..

نعم عباد الله، ما من شيء أحب إلى المرء المسلم من أن يرى ولداً أو والداً أو حميماً أو أخاً مطيعاً لله عز وجل.. وقد جاء في تفسير هذه الآية : رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوٰجِنَا وَذُرّيَّـاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ (الفرقان : 74) قرة الأعين، يعني منتهى الراحة..

وقد كان سلفنا الكرام يحرصون على تأديب أولادهم ورعايتهم وتلقينهم معالي الأمور..

وهذا الإمام مالك رحمه الله إمام دار الهجرة يقول: كانت أمي تعممني ـ أي تلبسه العمامة ـ وتقول لي: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه.

وهذا إبراهيم بن حبيب رحمه الله يقول: قال لي أبي: يا بني إيت الفقهاء والعلماء وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم؛ فإن ذاك أحب إلي من كثير من الحديث.

هذا كلامهم وهذه وصاياهم رحمهم الله مع الفارق الكبير بين زمانهم وزماننا من حيث تنوع المغريات وكثرة الصوارف والملهيات، فإلى الله نشكو حالنا وتقصيرنا مع أنفسنا وأولادنا..

إن تربية الأبناء داخل الأسرة مسؤولية جسيمة، ومهمة جليلة، و«كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».. فالحذر من الأسرة تخرج مجرمين للمجتمع، والحذر من الأسرة التي تخرج منحرفين وجهالا لهذه الأمة..

الخطبة الثانية

أما بعد: فيا معشر المؤمنين، عوداً على بدء، فهذه رسالة مفتوحة مقروءة أبعثها إلى فئة من مجتمعنا، لها بصمة واضحة في التعامل مع الأولاد، ولها دور لا ينكر في تقويم أولادنا وتوجيههم، وعليهم المعول بعد الله عز وجل في تكميل دور الوالدين، بل وفي التعويض عنه أحياناً عند فقده، فإليكم يا معشر المدرسين هذه الكلمات:

أيها المدرس، ما ظنك بنفسك لو طبقنا عليك تلك المعايير التي كان أسلافنا يراعونها في المعلمين حين كانوا يفتشون عمن يأخذون عنه العلم وينقبون عن سمته وهديه قبل الجثو بين يديه والتلقي منه.

يقول إبراهيم النخعي رحمه الله: كانوا إذا أتوا الرجل ليأخذوا عنه نظروا إلى سمته، وإلى صلاته، وإلى حاله، ثم يأخذون عنه.

ويقول أيضاً: كنا إذا أردنا أن نأخذ عن شيخ سألنا عن مطعمه ومشربه ومدخله ومخرجه، فإن كان على استواء أخذنا عنه وإلا لم نأته.

وقد كان السلف يحرصون على أخذ الأدب والخلق من المعلم أكثر من حرصهم على أخذ العلم:

هذا الحسين بن إسماعيل يحكي عن والده قائلاً: كنا نجتمع في مجلس الإمام أحمد زهاء خمسة آلاف أو يزيدون، أقل من خمسمائة يكتبون والباقي يتعلمون منه حسن الأدب وحسن السمت.

وروى الإمام مالك عن ابن سيرين رحمه الله أنه قال واصفاً حال كبار التابعين: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم.

وكان أصحاب عبد الله بن مسعود  يرحلون إليه فينظرون إلى سمته وهديه ودلِّه فيتشبهون به.

وقال ابن وهب رحمه الله: ما نقلنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه.

أيها الأحبة، ما منا أحد جلس في مقاعد الدراسة وتقلب في جنبات المدارس والجامعات إلا ويذكر بعض معلميه بالخير ممن كان لهم أثر عليه في علم أو سلوك أو حسن خلق.

فيا معشر المدرسين، وأنتم من بين المربين داخل المجتمع، تذكروا ما أنتم عليه من المسئولية العظيمة والأمانة الثقيلة حين يقبل عليكم أولاد المسلمين فينهلون من أخلاقكم وتعاملكم أكثر من علمكم شئتم أم أبيتم، ومن شك في شيء من هذا فليسل ابنه الصغير قبل الكبير فسيرى ويسمع عجباً.

عار علينا نحن المربين أن تكون أخلاقنا وتصرفاتنا مخالفة لما نقوله لتلامذتنا، عار علينا حين نعامل طلابنا وكأنهم خشب مسندة لا تشعر ولا تحس..أي أثر يسري في طلابك أيها  المربي وهم يرون منك همة ضعيفة وتعاملاً سيئاً؟

أيها المربي، إنّ وقْعَ حركاتك وأفعالك على من تحتك له الأثر البالغ في تغيير سلوكهم وتقويم أخطائهم، وآلاف الكلمات والعظات تذهب أدراج الرياح، يغني عنها موقف صدق وحق.. ولهذا جاء في دراسة أجريت على عينات الشباب حول تجديد صفات القدوة أن 83 في المائة رأوا أن من صفات القدوة أن يكون له مواقف إنسانية، و82.30 في المائة أنه يتحلّى بالتواضع، و79.10 في المائة أنه متدين، و59.50 في المائة أنه طيب القلب.

أخي المدرس تذكر أن من تلاميذك من هو يتيم العلم والأدب فلا تزد الطين بللاً ولا الإهمال إهمالاً.

ووالله إن لك أيها المدرس من الأثر في طلابك ما قد لا تتصوره، فاحتسب الأجر وأحسن العمل.

فلو استشعر المدرسون ما هم عليه من أبواب الخير والأجر لأدركوا نعمة الله تعالى عليهم حين يورثون أبناء المسلمين علماً نافعاً وأدباً يبقى صدقة جارية لا ينضب معينها..

يكفينا ـ معشر المدرسين ـ قول المربي الحبيب  : «إن الله وملائكته وأهل السموات والأرضين حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير».. فهنيئاً لمن كان معلماً للخير داعياً إلى الله مرشداً وموجهاً وبالخير سابقاً، وهنيئاً ثم هنيئاً لمن كان قدوة لأولاده وطلابه في حسن الخلق ولزوم الطاعة والبعد عن سفاسف الأمور.

وكلمة أخيرة لرؤساء ومجالس جمعيات آباء وأولياء التلاميذ بمؤسساتنا التعليمية..

- النيابة بأمانة عن الآباء والأمهات داخل المؤسسات

- معرفة المسؤولية الجليلة لهذه الجمعية (دون الاقتصار على بعض الأعمال الإحسانية كشراء النظارات والأدوات وغيرها..):

- الإسهام في الرفع من المستوى التربوي والأخلاقي للأجيال.

- تحقيق تواصل مع الآباء والأمهات لتكامل الأدوار بين المؤسسة والأسرة.

- تحسين العلاقات ما بين المدرسين والتلاميذ ومعالجة المشاكل المتعلقة بالتدريس..

- معالجة المشاكل الاجتماعية.

وأخيرا إن التكامل بين الأسرة والمدرسة وجمعية أباء وأولياء التلاميذ وغيرهم من الفاعلين هو المطلوب لكي نرقى بأبنائنا إلى مستوى يليق بالعملية التربوية، ويحقق الأهداف المرجوة بحول الله تعالى..

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>