د. إبراهيم والعيز
إن المتأمل في حديث القرءان الكريم عن الربا في أواخر سورة البقرة، يجد هذا الحديث ورد في سياق حث الأغنياء على البر بالفقراء وإحسانهم إليهم دون مقابل إحسانا لا من فيه ولا أذى، والحض على أن يكون هذا الإحسان من الطيبات التي رزقهم الله لا من الخبائث. وفي هذا السياق نجد القرءان الكريم يوجه أقوى الحملات إلى الربا وأقصى الطعنات إلى المرابين المستغلين إلى حد أن ينذرهم بإشهار حرب عليهم هي أخطر الحروب وأفتكها، إذ يشنها عليهم الله تعالى ورسوله ، فلا مناص لهم من الخذلان والبوار في هذه الدار وفي تلك الدار فقال تعالى؛ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (البقرة/ 274-275). ثم قال تعالى بعد ذلك؛ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (البقرة/ 277-278).
مبادئ التشريع القرءاني في الربا:
إن هذا التشريع المفصل القاطع في شأن الربا التي نزلت به آيات سورة البقرة المدنية، ظهرت نواته الأولى لأول مرة في سورة الروم المكية، حيث قال تعالى؛ وَمَا ءاتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّترْبُوا فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُوا عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (الروم/ 38)، ثم جاءت آيات سورة البقرة تقرر للمسلمين وللناس أجمعين خمسة مبادئ ثابتة وقواعد راسخة:
المبدأ الأول: إبطال تشبيه البيع بالربا ومنع قياس الأول على الثاني، لأن البيع عقد تبادل وتعادل بين البائع والمشتري لمصلحة الطرفين يقوم على أساس التراضي والاختيار، والربا يرافقه ويؤثر فيه من البداية إلى النهاية عامل الضغط والاحتياج والاضطرار، ولذلك تكون مصلحة المرابي فيه وأنانيته الجامحة هما الأساس والمقياس، ويكون الضرر المحقق هو نصيب المضطر إلى قبوله من ضعفاء الناس. والبيع أكل مال بحق عن عوض، بينما الربا أكل مال بالباطل دون عوض ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا.
المبدأ الثاني: إقرار ما سبق وانتهى أمره من المعاملات الربوية التي تمت قبل تحريم الربا على ما كانت عليه، فلا رجوع من مسلم على جاهلي على ما أخذه الجاهلي منه في رباه قبل تحريم الإسلام للربا، إذ ليس لهذا التحريم مفعول رجعي فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُون. قال سعيد بن جبير والسدي: «فله ما سلف أي له ما كان أكله من الربا قبل التحريم» (1).
المبدأ الثالث: إسقاط حصة الربا الزائدة على رأس المال من المعاملات الربوية التي صادف الحال حين نزول القرءان بتحريم الربا أنها لم تكن قد تمت تسويتها من قبل، فحكم الله في هذه المعاملات التي بقيت معلقة إلى حين التحريم، هو تسليم رأس المال غير منقوص إلى صاحبه مع إعفاء دافع رأس المال من أداء حصة الربا التي كان مطالبا بها قبل التحريم زيادة على رأس المال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، أي لا تظلمون بأخذ الزيادة عليها، ولا تظلمون بالتنقيص منها.
المبدأ الرابع: إعلان السخط الإلهي بأروع صورة وأقوى تعبير على المرابين المستغلين، الذين يستغلون حاجة المحتاجين واضطرار المضطرين فيختلسون منهم ثمرة أعمالهم ويقطفون زهرة أموالهم، وذلك هو مغزى إشهار الحرب من الله ورسوله على عصابة المرابين وعقابهم في الدنيا بمس الشياطين وفي الآخرة بجعلهم في النار من الخالدين الذين ياكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله، ومن عاد فأولئك أصاحب النار هم فيها خالدون. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى: فإن لم تفعلوا فاذنوا بحرب من الله ورسوله معنى آخر يستحق الالتفات وهو أن «من كان مقيما على الربا لا ينزع عنه كان حقا على إمام المسلمين أن يستتيبه فإن نزع وإلا ضرب عنقه» (2).
المبدأ الخامس: صدور حكم الله تعالى الذي لا يقبل أي نقض بمحق الربا وبوار ربح المرابين المستغلين، ونزع البركة مما تحت أيديهم من الثروات التي يكدسونها ومن الأموال التي يكنزونها، ومن آثار هذا المحق المحكوم عليهم به من الله ما يعاقب به من يتعاطون الربا من الأفراد والجماعات، ولا سيما عن طريق الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات والأعاصير والأوبئة والأمراض وأنواع القحط والجذب، أو عن طريق المآسي الاجتماعية كالسرقات والاختلاسات والحروب، وهكذا يقبض المرابون بيد وهم فرحون مستبشرون ويدفعون باليد الأخرى ما قبضوه وهم متشائمون كارهون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم.
طريقة علاج العلماء لموضوع الربا :
ونظرا إلى أنه لا يوجد أمر استنكره الإسلام كما استنكر الربا، وأغلظ فيه القول كما أغلظه في أمره، إذ هو الأمر الوحيد الذي هُدد مرتكبوه بحرب من الله ورسوله، فقد عالج علماء الإسلام من السلف والخلف موضوع الربا بكثير من اليقظة والحذر واتفقوا على إثبات صفة الربوية لعدد محدود من المعاملات فوقع الإجماع على إدراجها في الربا، وفي طليعة ما أجمعوا على منعه منعا باتا؛ ربا الجاهلية الذي عناه رسول الله بقوله في حجة الوداع: «…وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا: ربا عباس بن عبد المطلب»، وهذا ما تعارفوا عليه بقولهم؛ «أنظرني أزدك» (3).
ثم اختلف اجتهاد علماء السلف ورأي الأئمة في عدة صور ومعاملات مما وجدوه متعارفا بين أظهرهم فأثبت بعضهم لها صفة الربوية وحكم بتحريمها، ونفى بعضهم الآخر عنها تلك الصفة وأباح التعامل بها. قال ابن كثير في تفسيره؛ «ومن هذا حرموا- أي الفقهاء- أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم» (4)، ثم عقب ابن كثير على ذلك في تفسيره فقال بالحرف الواحد؛ «وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : «ثلاث وددت رسول الله عهد إلينا فيهن عهدا ننتهي إليه؛ الجد والكلالة وأبواب من أبواب الربا» يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا» (5)، ثم نقل ابن كثير بعد ذلك عن عمر بن الخطاب أنه قال في نفس الموضوع؛ «من آخر ما نزل آية الربا، وإن رسول الله قبض قبل أن يفسرها لنا فدعوا الربا والريبة» (6).
وعندما نراجع أحكام القرءان للقاضي أبي بكر بن العربي المعافري، نجده قد خصص لموضوع الربا بحثا شافيا تبرز من خلاله أهمية هذا الموضوع وخطورته، وقد بين أن الرجل من العرب في الجاهلية كان يبايع الرجل إلى أجل، فإذا حل الأجل قال له؛ «أتقضي أم تربي وأصبر أجلا آخر» فحرم الربا وهو الزيادة (7).
وأشار ابن العربي إلى اختلاف العلماء في حمل آية الربا هل هي عامة في تحريم كل ربا أو مجملة لا بيان لها إلا من غيرها؟ (8). ولم يهمل الإشارة إلى أن تطبيق آيات الربا على الصور المختلفة قد أشكل على أكثر العلماء فقال ما نصه : «ولأجل هذا صارت الآية مشكلة على الأكثر، معلومة لمن أيده الله تعالى بالنور الأظهر» (9)، ثم عقب على ذلك قائلا حكاية عن نفسه؛ «وقد فاوضت فيها علماء، وباحثت رفعاء، فكل منهم أعطى ما عنده، حتى انتظم فيها سلك المعرفة بدرره وجوهرته العليا» (10).
وبناء على ما ذكر نرى أن المسلم يجب عليه أن يتفادى كل معاملة أجمع العلماء على اعتبارها معاملة ربوية محرمة، وفيما عدا المجمع على تحريمه من المعاملات ينبغي من باب الاحتياط والبعد عن التشهي أن يلتزم المسلم فيها مذهب إمامه، فما هو ممنوع في المذهب تركه وما لا منع فيه استباحه لنفسه.
أما الصور الجديدة والمعقدة من المعاملات التجارية والمالية التي ظهرت في العصر الحديث، والتي لم يسبق لها نظير ولا أفتى فيها الأئمة والعلماء بحكم سابق، حيث لم تكن متعارفة ولا معهودة في وقتهم، فإن الواجب يقضي بإعمال النظر فيها طبقا لمقاصد التشريع وأصوله الثابتة وتمييز ما يندرج منها تحت الربا وفي حقيقته، حتى يعلم المسلمون قاطبة حكم الله في شأن المعاملات الربوية الحديثة، كما عرفوا حكم المعاملات الربوية القديمة.
وفي الختام أقول؛ إن هذا الموضوع يجب أن يتم النظر فيه على أساس اجتهاد فقهي جماعي يشترك فيه علماء الإسلام المعاصرون، ثم تعلن نتيجته على رؤوس الملأ في العالم الإسلامي كله، إنقاذا للشعوب والدول الإسلامية من حيرتها الاقتصادية وتوجيها لمنظماتها التجارية والمالية ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيي عن بينة.
———–
1 – تفسير القرءان العظيم، لأبي الفداء إسماعيل بن كثير. طبعة جديدة ومنقحة، مضمنة تحقيقات العلامة محمد ناصر الدين الألباني. خرج أحاديثه؛ محمود بن الجميل ووليد بن محمد بن سلامة وخالد بن محمد بن عثمان. ط/ 1. 1425هـ/ 2004م. مكتبة الصفا- القاهرة. ج/ 1. ص/ 380.
2 – تفسير ابن كثير. ج/ 1. ص/ 384.
3 – صحيح الإمام مسلم. كتاب الحج-باب حجة النبي . رقم؛ 2967. دار صادر-بيروت، دون ذكر الطبعة والتاريخ. ج/ 2. ص/ 441.
4 – تفسير ابن كثير. ج/ 1. ص/ 381.
5 - تفسير ابن كثير. ج/ 1. ص/ 381.
6 – نفسه. ج/ 1. ص/ 381.
7 – أحكام القرءان، لأبي بكر محمد بن عبد الله المعروف بابن العربي. راجع أصوله وخرج أحاديثه وعلق عليه؛ محمد عبد القادر عطا. ط/ 3. 1424هـ/ 2003م. دار الكتب العلمية-بيروت. ج/ 1. ص/ 320.
8 – نفسه. ج/ 1. ص/ 320.
9 – أحكام القرءان. ج/ 1. ص/ 320.
10 – نفسه. ج/ 1. ص/ 321.