لقد صدع الإسلام بمبدأ التوحيد، ولم يكن بدعا من الأديان السماوية، وذلك لما لهذا الركن الركين، والحصن الحصين من أهمية عظمى في حياة كل فرد. إذ عليه يتوقف فلاحه وخسرانه في الدنيا والآخرة، فيتحدد على ضوئه مصيره.
وهذه شواهد على التوحيد من كتاب الله المنظور:
أولا: الدليل من علم الفيزياء الفلكية:
يقول الله سبحانه: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ(الأنبياء : 30).
إن نظرية الانفجار العظيم، تدل أن الكون بأكمله وما يحتويه من عناصر كانت يوما ما متحدة. وفي هذا دليل على وحدة أصلها، وبالتالي على وحدة الخالق.
ثانيا: الدليل الفيزيائي:
على مدى ملايين السنين كانت العمليات التي تتم داخل كل نجم تكون تدريجيا لا الهليوم فحسب، بل جميع العناصر الأثقل من الكربون والسيليكون والحديد وغيرها، ومعنى ذلك أنه إذا كانت كل العناصر الثقيلة في الكون قد تكونت من الهيدروجين في قلوب النجوم، إذاً «المادة الأساس هي نفسها بالنسبة للكون بأكمله، ولكن… تظهر للوجود نتيجة اتحاد هذه المادة الأساس بصيغ وبأشكال مختلفة»(1)، إنها الوحدة الدالة على الخالق الواحد.
ثالثا: الدليل الجيولوجي:
قال تعالى:وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (النازعات : 30 – 33).
بحسب الجيولوجيين كانت قشرة الأرض أرهف مما عليه حاليا، ولكن نشاط البراكين زاد من سمكها، وبذلك تكون مجال فيزيائي غني بالمعادن كان مقدمة لنشوء الحياة على كوكبنا، ولما انبثق الماء من جوفها بدأت الحياة تسري على كوكب الأرض شيئا فشيئا، بحيث جاءت النباتات والزواحف والحشرات والطيور والحيوانات وبعد ذلك الإنسان. وكلها من تراب الأرض. وقد تفتقت قريحة الشاعر أبي فراس الحمداني بهذه الحقيقة لما قال:
إذا صح منك الود فالكل هين *** وكل الذي على التراب تراب (2)
وما قيل يدل على وحدة أصل من على الأرض، مما يدل على وحدة الخالق.
رابعا: الدليل البيولوجي:
الخلية هي «الوحدة التي تتألف منها الخلائق جميعا من حيوانات ونباتات. وإن هذه الخلائق تتألف منها تركيبا، وتتألف وظيفة»(3). أليس هذا المظهر من الوحدة دليلا على وحدانية الخالق؟ وثمة عنصر آخر من عناصر الوحدة وهو أن «الجينات الميكروسكوبية البالغة الدقة هي المفاتح المطلقة لخواص جميع البشر والحيوانات والنباتات»(4). ومن مظاهر الوحدة أيضا دخول عنصر الماء في تركيب كل الأجسام الحية، قال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ(الأنبياء : 30). إنها الوحدة الدالة على الخالق الواحد.
خامسا: الدليل العقلي والمنطقي:
إن مبدأ السببية أساس الأحكام العقلية والمحاكمات المنطقية. وفي عبارتنا (لكل حادث محدث) أمر يقيني مسلم به، فمحال على حادث أن يحدث بذاته، وعلى شيء أن يوجد بغير موجد. وبناء على هذا، نقول: إن الكون لا بد له من محدث، وإن الحوادث الفرعية الكثيرة مندفعة عن أسباب، وهذه الأسباب مندفعة عن أسباب أخرى أقل من الأولى، ولا بد أن نصل بالنتيجة إلى سبب لهذه المسببات، ومحدث لجميع هذه الحادثات، لأننا كلما رجعنا إلى الأصل الذي اندفعت عنه المسببات، قلت العوامل الدافعة حتى نصل أخيرا إلى سبب واحد. وبذلك يكون الخلق «قد تم بقدرة كائن غير مادي. وتدل الشواهد جميعا على أن هذا الخالق لا بد وأن يكون متصفا بالعقل والحكمة (…) ولا بد لمن يتصف بالإرادة أن يكون موجودا وجودا ذاتيا. وعلى ذلك فإن النتيجة المنطقية الحتمية التي يفرضها علينا العقل ليست مقصورة على أن لهذا الكون خالقا فحسب، بل لا بد أن يكون هذا الخالق حكيما عليما قادرا على كل شيء حتى يستطيع أن يخلق هذا الكون وينظمه»(5).
سادسا: الدليل المعرفي:
لقد عرف عصرنا ثورة علمية وتكنولوجية، وزخما معرفيا كبيرا، مما أدى إلى العديد من التخصصات في شتى المجالات. وفي الوقت الذي خال فيه الإنسان أن الفروع العلمية والمعرفية سيبقى بعضها في معزل عن بعض، إذا بكل التكهنات تهشم على صخرة الواقع، وإذا بالعكس هو الذي حصل تماما، وإذا بسلسلة العلوم والآداب والفنون تدخل في منظومة واحدة، ويعضد بعضها بعضا، ويغذي بعضها بعضا، في تكامل تام، وفي وحدة رائعة. بحيث وجدنا العلوم تتبادل التعاون حيث كل علم يستمد مبادئه من علم آخر قرب أو بعد، كما نجده هو أيضا يمد العلوم الأخرى، وهذا الأمر ملحوظ في العلوم المادية والكونية والعلوم الإنسانية والعلوم الشرعية. إنه التكامل والوحدة، فحتى ألوان المعرفة اصطبغت بطلاء الوحدة. إنه القانون الواحد الساري في هذا الكون الصارخ: إن الله واحد. وجاء بهذا الخصوص: «أما فيما يتعلق بالدين، فالظاهر أن مستقبل النظرة الجديدة يوحي بالعودة بثقافتنا إلى الإيمان بوجود الله الواحد» (6).
سابعا: دليل الإبداع والتسوية:
أينما وجه الإنسان بصره، أو أرهف سمعه، انتشى بالجمال وسِحْر الإبداع الذي يملأ عليه فكره وقلبه وعقله، فيرد في لحظة صدق مع النفس كل هذا السحر، والاتساق إلى مبدع واحد، ذلك هو الله سبحانه. وهذه الحقيقة تشكل برهانا قاطعا على أنه «لا يتفق مع العقل والمنطق أن يكون ذلك التصميم البديع للعالم من حولنا إلا من إبداع إله أعظم لا نهاية لتدبيره وإبداعه وعبقريته» (7).
ثامنا: الدليل التاريخي:
إن التوحيد أصل متأصل في عمق تاريخ البشرية. ووجوده كان منذ عهد آدم عليه السلام، ولم تخل فترة من الزمان من الموحدين، كيف لا، والرسل والأنبياء جاؤوا حاملين كلمة التوحيد؟، قال الله تعالى حكاية عن رسوله نوح :وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاقُوا رَبِّهِمْ(هود : 29)، وقال سبحانه:وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ(هود : 57)، وقال جلت قدرته:فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ(هود : 65)، وقال عز وجل:وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِين(هود : 94). وغير هؤلاء كثير مصداقا لقوله تبارك وتعالى: أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا(مريم : 58).
تاسعا: الدليل الواقعي:
إن كل حصيف يأخذ العبرة من الواقع من خلال دراسته، والكشف عن العوامل المؤثرة فيه. ولعل المتأمل فيه يجد عنصر التعددية أو حتى الثنائية مرفوضا في أعلى هرم السلطة، أو التنظيم الإداري أو المؤسسي، ذلك أننا لا نجد إلا رئيسا واحدا في المؤسسات بمختلف أنواعها. وعلى المستوى الدولي لا نجد إلا رئيسا واحدا لكل دولة. وعلى صعيد مجلس الأمن الدولي يتناوب أعضاؤه على رئاسته تفاديا للثنائية، وعلى مستوى جمعية الأمم المتحدة، لا نجد لها إلا أمينا واحدا، وذلك حتى لا تختلف الإرادات، وتتضارب الغايات. وإذا كان هذا حال مساحة كوكب الأرض الذي إذا ما قورن بالكون الفسيح، كان أشبه ما يكون بهباءة، أفلا يكون الأمر مدعاة لأن يسري قانون الوحدانية على الكون كله حتى لا يستأثر كل إله بما خلق، فيحكم على الكون بالزوال؟.
فالتزاما بعقيدة التوحيد الصحيحة التي يشهد لها فضلا عن القرآن الكريم، كل شيء من هذا الكون، من الذرة إلى المجرة. وتترتب عنها في نفس المؤمن آثار إيجابية تنعكس على حياته، فيشعر بالحرية والثقة بالله تعالى، وتعم روحه السكينة، ونفسه الطمأنينة، فيخرج من دوامة القنوط واليأس، وتضمن له الحياة الكريمة والسعادة الحقيقية في العاجلة والآجلة.
———–
1 – الذرة تسبح الله، لأميد شمشك ترجمه عن التركية أورخان محمد علي.
2 – بيت من قصيدة : الود المحض من ديوان أبي فراس الحمداني (ت 357 هـ)
3 – مع الله في الأرض، للدكتور أحمد زكي ص 342 دار الهلال.
4 – العلم يدعو إلى الإيمان، تأليف : أ. كرسي مورسيون، ص : 139، دار القلم، بيروت لبنان، الطبعة الأولى: 1986م.
5 – الله يتجلى في عصر العلم، ص : 31.
6 – العلم في منظوره الجديد، للدكتور روبرت م. أغروس، وجورج . ن . ستانيو، ترجمة كمال خلايلي، ص : 147، العدد 134 من سلسلة عالم المعرفة الصادر بتاريخ : 1409هـ/1989م.
7 – المصدر نفسه ص : 95.