شرح الأربعين الأدبية (45)


في  أن في الرد على المشركين شفاءً (4)

رأينا في الحلقات الثلاث السابقة ثلاث مسائل من حديث دعوة النبي  الصحابة إلى الرد على هجاء قريش، الأولى: سبب الورود، والثانية: تكليف شعرائه الثلاثة بالرد، والثالثة: جهود حسان بن ثابت في ذلك، وسنرى في هذه الحلقة المسألة الرابعة الخاصة بأثر رد حسان.

رابعا: أثر رد حسان.

للحديث عن هذا الأثر مقدمتان:

الأولى هي أن حسان بن ثابت كان مدعوما بالتكليف النبوي بالرد، والمعرفة التي قدمها له أبو بكر الصديق بأنساب القوم، وإخبار النبي  إياه أن روح القدس يؤيده ما نافح عن الله ورسوله، وقد تحتمل العبارةُ الخبريةُ للنبي  الدعاءَ.

والمقدمة الثانية هي أن ذلك الدعم قابله من جهة حسان كفاءة عالية، وحماس كبير، ومعرفة جيدة بالعدو، وفهم دقيق للمطلوب منه في تلك اللحظة بالذات.

وأما الأثر فظاهر من قول أم المؤمنين عائشة في حديث الباب: «سمعت رسول الله  يقول: هجاهم حسان فشفى واشتفى».

وفيه أمور:

أولها ورود فعلين لهما علاقة بالصحة والمرض هما «شفى»، و«اشتفى».

وثانيها ارتباطهما سياقيا بالهجاء، فما هجا به حسان كفار قريش سبّب الشفاء والاشتفاء.

وثالثها إطلاق لفظي: «شفى» و«اشتفى».

ورابعها قَصْر ذلك على حسان دُون سواه.

وخامسها غياب أي إشارة إلى الوقت الذي قال فيه الرسول  ما قاله، فلا نعلم من ذلك إلا أنه قاله بعد أن قال حسان قصيدَته، وفيه احتمالان:

أولهما أنه لم يَصْدُر عن النبي  إلا بَعْد ملاحظته الأثر الذي أحدثته القصيدة، وهو ما يقتضي أن لا يكون ذلك بعد الإنشاد مباشرة، وقد يُقوي هذا سماع أم المؤمنين قول النبي .

والثاني أنه صَدَر مباشرة بعد سماع القصيدة، فيكون دالا على سُرعة الأثر الذي أحدثته، ويكون سماع أم المؤمنين لها كسماع غيرها؛ لأن الغالب أن الإنشاد كان في المسجد، وقد رأينا مِن قبل أن النبي  خصص لحسان منبرا فيه، مع العلم أن السماع ممكن حتى مِن بيت أم المؤمنين، فضلا عن السماع مِن مكان النساء.

وكيفما كان الأمر فالأكيد أن قصيدة حسان كان لها أثر قوي، وأن هذا الأثر بلغ درجة الشفاء والاشتفاء.

وفي قِسم الأثر من الحديث سؤالان هما: شفاء من؟ واشتفاء من؟

يَحتَمل اللفظان معا «شفى واشتفى» أمورا:

أولها أن المقصود بهما الجماعة المسلمة، فيكون ذلك دالا على عمق الأثر الذي أحدثه هجاء المشركين، وأنه كالمرض، فكان جواب حسان علاجا، فهو مِن هذه الناحية قد شفاهم مِن ذلك الأثر الذي أشبه المرض.

وثانيها أن المقصود بهما الجماعة المشركة، فقول حسان فيهم حقق الشفاء والاشتفاء لنفسه وللمسلمين منهم، وقد يحتمل أيضا إشارة إلى أثره في العدو، وهذا له ما يقويه تاريخيا، وقد رجحنا -في الحديث عن المسألة الأولى- أن يكون زمن القصيدة سنة سبع، فنحن على أعتاب الفتح، والأمور تتجه نحو الحسم النهائي للمعركة، واتجاه المشركين نحو الهزيمة النفسية أولا، والعسكرية ثانيا، تمهيدا للاستسلام للمسلمين ثم للإسلام في الفتح وبُعيده.

وثالثها أن «شفى» خاص بالجماعة المسلمة، و«اشتفى» خاص بحسان، فرَدُّ حسان شَفى المسلمين مما أصابهم، وقد طلب حسان الشفاء لنفسه، فطاوعته في ذلك، وشارك القوم في الشفاء وطلبه، ومعلوم أن صيغة افتعل لها معان: منها المطاوعة والتشارك، فيكون حسان أيضا قد اشتفى بمعنى أنه شفى نفسه أيضا، ولكنه شفاها بعد أن شفى غيرها، فكأن شفاءه من شفاء المسلمين، وأنه لما رأى شفاءهم اشتفى.

وعلى كل حال فكل ذلك ممكن، لأن إطلاق اللفظين «شفى واشتفى» يحتمل تلك الأمور وغيرها.

وينبغي أن لا تفوتنا مسألة من الأهمية بمكان هنا، هي أن الحديث عن الشفاء والاشتفاء مرتبط بقصيدة حسان، وإنشاده إياها في ذلك السياق التاريخي، وكون الأمر كذلك لا يعني إطلاقا أن قصيدة حسان هي فقط التي حققت/تحقق تلك النتيجة، وأدت/تؤدي تلك الوظيفة؛ إذ لا دليل على التخصيص؛ بل كل شعر كان دفاعا عن الحق وأهله، وصدر عن مؤمن متفاعل مع قضايا أمته حقا وصدقا يمكنه أن يشفي ويشتفي، وكل أمة مكلومة يُمْكِنها أن تستعين –من ضمن مَن تستعين بهم- بشعرائها لطلب الشفاء والاشتفاء، وكل أمة فرّطت في مواهبها وطاقاتها ستعيش المرض بجميع أنواعه، ولن تجد لها شافيا ولا مشتفيا؛ لأن الشفاء والاشتفاء يأتيانها  من أبنائها، لا من غيرهم، ومن طليعتها الثقافية، لا من عموم الناس.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>