ذ. فهمـي هـويدي
اعترضت على السؤال: ماذا بقى من ثورة 25 يناير 2011؟ إذ كان ردي أنه السؤال الغلط، لأن أوان حصر النتائج لم يحن بعد. إذ الظروف في مصر أكثر تعقيدا مما يظن كثيرون. من ناحية لأن الثورة ذاتها لم تكتمل وشعاراتها في الحرية والكرامة الإنسانية لا تزال معلقة في الفضاء ولم تنزل إلى الأرض.. ومن ناحية ثانية، لأن طبيعة الواقع السياسي والاجتماعي جعلت من التغيير مهمة بالغة الصعوبة، لا سبيل إلى تحقيقه إلا بعد جولات من الصراع تستغرق أجلا ليس بالقصير، وما مرت به مصر خلال السنوات الأربع التي خلت لم يكن سوى أولى تلك الجولات.
إذ بات الاتفاق منعقدا على أن الثورة أسقطت رأس النظام السابق في حين بقى جسم النظام قائما وراسخا لم يتزحرح. وخلال تلك السنوات الأربع لم يثبت الجسم وجوده فحسب، ولكنه فرض رؤيته أيضا. ومن المفارقات ذات الدلالة في هذا الصدد أنه حين شكلت لجنتان برئاسة اثنين من أكبر قضاة مصر لتقصى حقائق أحداث الثورة، فإن جسم النظام نجح في إخفاء معالم التقريرين اللذين خلصت إليهما اللجنتان، لأنهما كشفا عن حقيقة الدور الذي قامت به أدواته وأصابعه. وبلغ النجاح ذروته حين نجح الجسم المذكور في أن يفرض رؤيته في صياغة الأحداث التى وقعت، لكي يطمس معالم دوره الذي تكشفت بعض ملامحه. أتحدث عن تقرير تقصى حقائق أحداث الثورة (الـ18 يوما الأولى) الذي أعدته في عام 2011 اللجنة التي رأسها المستشار عادل قورة رئيس مجلس القضاء الأعلى والتقرير الذي أعدته عن فترة حكم المجلس العسكري الذي أعدته في عام 2013 لجنة رأسها المستشار عزت شرباص نائب رئيس محكمة النقض، هذان التقريران دفنا ولم يجرؤ أحد على نشرهما حتى الآن. ولولا خلاصة في 40 صفحة وزعتها اللجنة الأولى وظهرت على الإنترنت بعدما سلمت اللجنة تقريرها إلى رئاسة الدولة، لما تسرب إلينا شيء من ذلك التقرير الخطير الذي أدان الشرطة في قتل المتظاهرين، وهو السجل الذي جرى محوه بالكامل وتمت تبرئة الشرطة وقياداتها من كل ما نسب إليها.
أما الرسالة الأكثر وضوحا وبلاغة في تأييد ما ذكرته، فقد تمثلت في تبرئة مبارك ورجاله، وإطلاق ابن الرئيس الأسبق، حيث كانت براءة هؤلاء جميعا مع اقتراب الذكرى الرابعة لانطلاق الثورة، بمثابة إدانة ضمنية للذين أزاحوا أولئك «الأبرياء» من مناصبهم، إلى جانب كونها إعلانا عن ثبات النظام سابق الذكر وتعافيه.
هذا الذي حدث لم يكن مفاجئا تماما، لأنه بمثابة إفراز طبيعي للواقع الذي أقامه ورعاه نظام مبارك. ذلك أنه خلف لنا واقعا منزوع العافية، في مواجهة سلطة تجذرت وتجبرت بحيث لم تترك للمجتمع طاقة يستطيع أن يدافع بها عن نفسه. لا قوى سياسية ولا مؤسسات مستقلة رسمية كانت أم أهلية، ولا نقابات فاعلة ولا إعلام حر، وحين جرى إلحاق كل هؤلاء بالسلطة فإن ذلك استصحب إلحاق النخبة معها ــ إلا من رحم ربك ــ وهو ما أفسد البيئة السياسية وأحدث في البلد فراغا سياسيا حائلا ما زلنا نعانى منه إلى الآن.
يساعدنا على استيعاب المشهد على نحو أفضل تحليل وقعت عليه كتبه الباحث السوري حسين عبد العزيز ونشرته جريدة الحياة اللندنية في (7/1/2015)، وكان يقارن فيه بين التجربة الثورية في كل من تونس وسوريا، وقد لجأ فيه إلى المقارنة بين الثورتين الإنجليزية والفرنسية، حيث كانت الأولى سلمية وسريعة، اقتصرت على النخبة. إذ كان طرفاها البرلمان في جهة وويليام الثالث الحاكم الأعلى لهولندا من جهة ثانية. فقد بدأت الثورة عام 1688 بعزل الملك جيمس الثاني وتنصيب ابنته مارى وزوجها وليام أورانج، وانتهت في العام الذي يليه بإعلان الحقوق.. وهذه السرعة والتكلفة البسيطة للثورة مرتبطة بكونها نتاج مسار ثوري طويل ومنقطع يعود إلى ما قبل «الماجنا كارتا» عام 1215 ثم الحروب وحركات الإصلاح الديني ثم الحرب الأهلية (1642 ــ 1651) هذا المسار الثوري الطويل وما رافقه من تطور فكرى هو الذي حال دون اتخاذ الثورة الإنجليزية مسارا عنيفا على غرار الجارة فرنسا.
بالتوازي مع ذلك ــ أضاف الكاتب ــ كان التنوير الإنجليزي متسامحا مع أنواع كثيرة من الإيمان والكفر، ولم يكن هناك نزاع بين السلطات المدنية والدينية، ولم تكن هناك حاجة للإطاحة بالدين لأنه لم يكن هناك بابا ولا محاكم تفتيش ولا كهنوت محتقر ولا كنيسة مضطهدة. لذا مال الإنجليز إلى الحلول الوسط وهو الميل الذي يعنى في الشؤون الاجتماعية إيثار الإصلاح على الثورة كما يقول برتراند راسل.
اختلف الموقف في فرنسا بسبب قوة الملكية المطلقة التي لم تقم مؤسسات قابلة للحياة ولا طبقة نبلاء وبرلمان تستطيع مواجهة الملك الذي أخذ في تقوية البورجوازية الصاعدة لمواجهة الإقطاع، لكن الذي جرى مع الوقت أن هذه البورجوازية بدأت تتسم بسمات الإقطاع.
في الوقت ذاته، فشلت الطبقة الارستقراطية في الاندماج بالرأسمالية الوليدة والتحول إلى التجارة الزراعية واستعاضت عن هذا العجز بخلق ترتيبات إقطاعية لاستخراج الفائض الاقتصادي من الفلاحين والقضاء على ما تبقى من امتيازاتهم، الأمر الذي حال دون التوصل إلى حل يرضى الفلاحين ويجنب البلاد العنف كما حدث في إنجلترا.
هذا الوضع الراديكالي انعكس على مستوى البنية الفوقية، فالفلاسفة الفرنسيون الذين كانوا غير فاعلين في الحياة السياسية بسبب الاستبداد الملكي، طوروا أيديولوجيات مثالية مفارقة للواقع باسم العقل والحقوق والطبيعة والحرية والمساواة.. إلخ، وهذه الأيديولوجيات طبعت التنوير الفرنسي بطابعها: فولتير دعا إلى إعلان الحرب على الكنيسة، وبيدرو دعا إلى قتل الملك وباسم هذه الأيديولوجيات وغيرها كشفت الثورة عن أنيابها وأنجبت عهد الرعب الفرنسي أثناء الثورة مع روبسبير واليعاقبة.
أسقط الكاتب هذه الخلفية على الواقع في كل من تونس وسوريا. واعتبر أن التغيير السلمي الذي حدث في تونس له علاقة بأسس الدولة الحديثة التي أرساها بورقيبة، وقامت في ظلها مؤسسات قوية ومجتمع مدني فاعل وطبقة وسطى تنويرية لها مصلحة في التغيير الديمقراطي. وهو ما يضع تونس في مربع الخبرة البريطانية. ولأن ما حدث في سوريا كان العكس تماما، فقد اعتبرها سائرة على درب النموذج الفرنسي.
رغم أن الفرق كبير في التفاصيل بين الخبرة السورية والمصرية خصوصا في مدى العنف والقمع، إلا أنني أزعم أنه فرق في الدرجة وليس في النوع. حيث التشابه قائم بين التجربتين في تغييب الديمقراطية وإلغاء دور المؤسسات وتأمين الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني. وهى مواصفات من شأنها إطالة أمد الصراع لإقامة المجتمع الديمقراطي المنشود في مصر. وبعدما تم دفع ضريبة الدماء بكلفتها العالية، فإننا نسأل الله أن يلطف بنا في الشق المتبقي بحيث لا تحذو الثورة الفرنسية التي لم تستقر أوضاعها إلا بعد مائة عام، ولا يزال لنا في الموضوع كلام آخر.