التوثيق الأسري : أهميته وفوائده


د. أحمد الطلحي

تحتاج الأسرة المسلمة لعدد من المعارف والمهارات التي تساعدها على النجاح في مسيرتها، والتوثيق أحد هذه المعارف والمهارات. فما المقصود بالتوثيق الأسري؟ وما هي كيفيته ووسائله؟.

مـفهـوم التوثيـق:

التوثيق لغة هو إحكام الأمر، وهو مشتق من الوَثَاق أي الرباط. ونجد في اللهجة المغربية مرادف متطابق لهذا المعنى هو “التقييد”، الذي يعني كتابة المعاملات في الدفاتر والسجلات أو التسجيل في اللوائح المختلفة أو كل كتابة على الورق، وكأن الأفكار والمعلومات والمشاعر إذا لم تسجل وتدون ستطير كما تطير الطيور، إذا بهذا المعنى الدارج فإن الكتابة هي القيد.

في الغالب عندما يذكر التوثيق فإن الفكر يذهب إلى توثيق المعاملات المالية أساسا، ولكن هذا جزء من التوثيق فقط، أما التوثيق عموما فله معاني كثيرة، فهو يطلق على التدوين بمعنى التسجيل، ويطلق على ما أصبح يعرف بالأرشفة أي جمع الوثائق وتنظيمها، وبالإطلاق التوثيق من الكتابة وكل كتابة توثيق.

تأصيل التوثيق:

الأصل في فرض التوثيق هو في البيوع والمعاملات التجارية (باستثناء المعاملات التجارية الفورية فهي ليست واجبة). والآية الوحيدة التي تفرض على المسلمين الكتابة هي آية الدَّيْن، وهي أطول آية موجودة في أطول سورة وهي سورة البقرة ولعل في ذلك حكمة. قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم (البقرة: 282). ففي هذه الآية وردت كلمة الكتابة تسع مرات بألفاظ مختلفة، مما يدل على أهميتها، كما وردت بصيغة الأمر.

وبالرغم من أن الأمر بالكتابة اقتصر في الآية على المعاملات المالية، إلا أننا يمكن أن نستنبط منه الأمر بتعلم الكتابة عموما كما القراءة الذي ورد في سورة العلق اقرأ باسم ربك الذي خلق (العلق:1)، لماذا؟ لأن الأمر نزل بداية في الجزيرة العربية على قوم تجار أغلب معاملاتهم معاملات تجارية ومالية لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف (قريش: 1-2)، ولكنهم قوم أميون لا يعرفون القراءة والكتابة، وبالتالي وجب عليهم تعلم الكتابة والقراءة حتى تكون معاملاتهم شرعية.

ولكن، هناك أصل آخر يدعو للاهتمام بالكتابة، ورد في سورة القلم وهي ثاني سورة نزلت بعد سورة العلق، قال تعالى: ن، والقلم وما يسطرون (القلم:1). فالله سبحانه يقسم بالقلم الذي هو أداة الكتابة، والله لا يقسم إلا بعظيم من خلقه، والقلم يمكن أن يتخذ أشكالا مختلفة: المسمار في أول كتابة وهي الكتابة المسمارية؛ أدوات الرسم والنقش كما كان في الكتابات الأخرى مثل الكتابة الهيروغليفية؛ لوحة المفاتيح في الحاسوب واللوحات الإلكترونية وأجهزة الهاتف؛ وأي آلة أو أداة للكتابة سيخترعها الإنسان في المستقبل.

حتى سورة العلق فيها إشارات إلى الكتابة: الذي علم بالقلم (العلق: 4)، ثم عندما نؤمر بالقراءة فإننا سنقرأ ما هو مكتوب. وبالتالي فالقراءة والكتابة متلازمان.

أما السنة النبوية، فعنايتها بالكتابة والعلم والتعلم، فحدث ولا حرج. ويكفينا دليل واحد على ذلك من السيرة هو مطالبة الأسرى من كفار قريش في غزوة بدر تعليم عشرة من الصحابة القراءة والكتابة مقابل الإفراج عنهم، وهي فدية في حقيقة الأمر أكبر قيمة من أية فدية مالية على الإطلاق، لأن القراءة والكتابة أدوات ضرورية للعلم، والعلم يحرر العقول من أسر ظلمات الجهل.

أهمية التوثيق الأسري:

يتخذ التوثيق أو التدوين أو الكتابة في الحياة الأسرية عدة أشكال وصيغ. المهم أن تكون الكتابة حاضرة يوميا في أسرنا، نعم نحن قد نكتب كأفراد، في إطار الدراسة والعمل، إلا أننا نادرا ما نكتب في إطار أسري جماعي.

الأصل أن الأسرة المسلمة تبدأ حياتها وتتأسس بتوثيق الزوجية، وهو الميثاق الغليظ. وكل فرد يزداد على الأسرة (الأبناء) يدون في دفتر الأسرة وفي سجلات الحالة المدنية. وكل مولود تدون فحوصاته الطبية في الملف الصحي وفي سجلات المراكز الصحية. وبعد ذلك حين يبلغ الطفل سن السادسة يسجل في المدرسة الابتدائية ثم بعد ذلك في المدرسة الإعدادية فالثانوية ففي مؤسسات التعليم العالي أو التكوين المهني… وهكذا، في كل حياة أفراد الأسرة. لكن هذا التوثيق هو توثيق إلزامي شرعا وقانونا ولدواعٍ تنظيمية وإدارية.

أما التوثيق الاختياري، فهو المفقود إلا نادرا. ويتمثل في حفظ ذاكرة الأسرة التي تتجلى في الصور الفوتوغرافية والفيديوهات، والنتائج المدرسية بالنسبة للأبناء، وذكريات الرحلات والأسفار كالتذاكر والفاتورات، وجميع الوثائق التي تحفظ ذاكرة الأسرة.

الكتابة في الأسرة تساعدنا على تنظيم أمور الأسرة، وخصوصا في مجال التخطيط الذي يغيب للأسف عن حياتنا الأسرية، فنحن نسافر بدون تخطيط مسبق، ننفق بدون تخطيط مسبق أيضا… والتخطيط باختصار هو نقل الأفكار والمعلومات إلى الورق، ثم بعد ذلك يكون التنفيذ من الورق إلى الواقع. التخطيط هو التصميم قبل العمل، في البداية يكون تصميم البيت الذي نريد بناءه في الذهن، ثم ننقله على الورق حتى يتسنى للبناء إنجازه في الواقع. قد يقول القائل أن أغلب الأعمال نفكر فيها وقد نتشاور فيها كأفراد الأسرة الواحدة قبل التنفيذ، نعم هذا تخطيط شفوي والتخطيط لا يكون إلا إذا كان مكتوبا. وأغلب المشاكل الأسرية سببها غياب التخطيط أي غياب رؤية قبلية للأمور، وغياب ورقة مرجعية عند حدوث الاختلاف.

كيفية التوثيق الأسري:

يتم التوثيق الأسري من خلال جمع جميع الوثائق التي لدى الأسرة، ثم تصنيفها حسب المواضيع والمجالات، فهناك وثائق لها علاقة بالجانب الإداري وأخرى بالجانب المالي، ووثائق تتعلق بالجانب الدراسي وأخرى تتعلق بالذكريات مثل الصور وغيرها… يتم تجميع هذه الوثائق حسب أصنافها ومواضيعها في ملفات خاصة بالأرشفة أو في أظرفة أو أية وسيلة، كما يمكن الاستعانة بالحاسوب.

يستحسن أيضا تنظيم الوثائق من خلال ترتيبها ترتيبا زمنيا. وهذا سيسمح لنا بالتعرف على التغيرات التي حصلت للأسرة عبر الزمن. وهنا أشير إلى أنه في علم التاريخ هناك التاريخ الاجتماعي الذي يعنى بتطور المجتمعات من خلال دراسة هذا النوع من الوثائق، فلو كان أجدادنا يوثقون لعرفنا كيف كانت حياتهم وأوضاعهم وكيف كان تطورنا الاجتماعي.

ولا ينبغي للأسرة أن تعمل فقط على جمع الوثائق التي تحصل عليها من جهات أخرى، بل عليها أن تعمد إلى إنتاج وثائقها الخاصة، كأن تقوم بتصوير أبنائها في فترات زمنية حسب أعمارهم وحسب المناسبات الهامة كأول يوم في المدرسة، وبالتالي عندما يكبر الطفل يحصل على ألبوم وملفات تتضمن وثائق مدرسية وغيرها تعطي له صورة عن التطور الكرونولوجي لحياته.

المذكرات، هي وسيلة هامة أيضا في حفظ ذاكرة الأسرة. فهناك فكرة سائدة وهي غير صحيحة أن المذكرات هي فقط للمشاهير. بل إنها إن أمكن ينبغي أن تكون معممة لأن فيها فوائد للجميع لأرباب الأسر حتى يرجعوا إلى الأحداث السابقة وإلى الأبناء والأحفاد للاستفادة من نجاحات وإخفاقات آبائهم وأجدادهم. بحيث حتى الذي كان فاشلا في حياته سنستفيد من حياته وسنأخذ الدروس فشله.

الآثار الإيجابية للتوثيق الأسري:

هناك آثار إيجابية كثيرة، في مقدمتها الآثار التربوية على الأبناء، فالطفل الذي ينشأ في أسرة تخطط الأم فيها لوجبات الأسبوع وتكتب قائمة المشتريات قبل الذهاب للسوق، أو تطلب منه أن يكتب هذه القائمة عندما ترسله هو للتسوق. وعندما ينشأ الطفل وهو دائما يلاحظ أباه يجمع الوثائق ويرتبها ويخطط لأسفار الأسرة… فهذا الطفل سيكون منظما في حياته سواء الدراسية أم الشخصية أم العملية.

من الآثار النفسية، أن التوثيق والتخطيط يساهم في التقليل من التشنجات والخلافات بين أفراد الأسرة خصوصا بين الوالدين، والتي يكون لها آثار سلبية على نفسية الأبناء. بحيث عندما تكتب الأسرة وتخطط ويكون اتفاق قبلي، ووثائق ترجع إليها في حالة الخلاف كمرجعية للتذكير أو الاحتكام، تقل المشاكل الأسرية وما يتمخض عنها من مشاكل اجتماعية وغيرها.

ومن الآثار النفسية أيضا للتوثيق الأسري، أن الفرد يشعر بسعادة عندما يرى هذه الوثائق، فيعرف مثلا الأبناء مقدار الحب والاهتمام الذين حظوا بهما من قبل الآباء، وهذا ما ينعكس بالإيجاب على نفسيتهم ويزيد الثقة فيهم ويقوي الود والحب بين أفراد الأسرة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>