من أمثال الدعوة الإسلامية في الحديث الشريف (*)


مع سنة رسول الله

دعوة الإسلام ورسالته من القضايا المهمة التي عني النبي ببيانها وإيضاحها للناس، وضرب الأمثال لها، فبين عن طريق ضرب المثل أهداف هذه الدعوة،  ومواقف الناس منها، والنتائج المترتبة على اتباعها في الدنيا والآخرة، والآثار السيئة التي سيجنيها من يرفض هذه الدعوة أو يخالفها، فقد كان حريصا كل الحرص على هداية الناس، وإرادة الخير لهم، ولم يبعث إلا لما فيه نفعهم وسعادتهم في معاشهم ومعادهم.

ومن هذه الأمثال النبوية التي بين فيها أقسام الخلق ومواقفهم بالنسبة إلى دعوته ومابعث به من الهدى والعلم، ما جاء في حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله: ( مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قَبِلتِ الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير،  وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولاتنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله، ونفعه مابعثني الله به فعَلِمَ وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به) متفق عليه وهذا لفظ البخاري.

ففي هذا الحديث مثل الرسول الناس وتفاوتهم في قبول رسالته والعمل بها،  بالأرض في اختلاف تقبلها للماء وانتفاعها به،  فشبه ما جاء به من الدين والعلم بالغيث الكثير الذي يعم البلاد والعباد من غير أن يستثني بلداً دون آخر أوطائفة دون أخرى، وهو من الكثرة بحيث لا يحتاجون معه إلى طلب المزيد،  ويأتي الناس وهم في أشد الحاجة إليه. وكذلك رسالته وماجاء به من العلم والهدى،  فقد جاءت لعموم الناس قال سبحانه : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين (الأنبياء : 107) وفيها من الخير والصلاح والكفاية للبشرية مالا يحققه غيرها من الديانات المحرفه والمناهج الأرضية، وكانت الأوضاع قبل بعثته أشد ما تكون حاجة إلى الإصلاح والتغيير عن طريق رسالة سماوية. قال واصفا تلك الحالة التي بعث والناس عليها “إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب ” (رواه مسلم) .

وكما أن الغيث سبب لحياة الأبدان،  فإذا هبط على الأرض الميتة منحها الحياة والنضارة والانتعاش، فكذلك الوحي  والعلم سبب لحياة القلوب واستنارتها، وإذا هبط الهدى الإلهي على القلوب والعقول بعث فيها روح الإيمان وأضاءها بنور العلم والحكمة.

وقد شبّه اختلاف مواقف الناس في قبول ما بعث به بأنواع الأرض المختلفة حين ينزل عليها المطر،  فذكر لها ثلاثة أنواع :

النوع الأول : هي الأرض الخصبة الزكية القابلة للشرب والإنبات،  فإذا أصابها الغيث شربت وارتوت فنفعت نفسها وأنبتت الزروع والثمار فنفعت غيرها،  وهذا مثل الطائفة الأولى من الناس وهم الذين تلقوا هذاالعلم فتعلموه وعملوا به فانتفعوا في أنفسهم،  ثم بلّغوه ونشروه بين الناس فنفعوا به غيرهم،  و في وصف النبي لهذه الأرض بالنقاء إشارة لطيفه إلى نقاء قلوبهم من كل هوى أو شبهة تحول بينها وبين الانتفاع بالوحي والعلم، ثم إن التمثيل الوارد في الحديث يشير أيضاً إلى الأثر الظاهر لهذا العلم النافع، والمتمثل في الأعمال الصالحة التي تقتصر على العبد نفسه، والأعمال التي يتعدى نفعها وأثرها إلى الآخرين، وذلك في قوله : “فأنبتت الكلأ والعشب الكثير” فكما أن خروج الكلأ والعشب من هذه الأرض الطيبة بعدما أمطرت هو نتيجة طبيعية،  فكذلك صدور الأعمال الصالحة من المؤمن صاحب القلب النقي الذي لم يتلوث بالأهواء والأخلاط بعد سماعه الوحي وعلمه به هو أمر طبعي أيضا، وهم مع ذلك لهم عناية بأعمال الخير المتعدية من تعليم العلم،  والجهاد في سبيل الله، والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغيرها مما يتعدى نفعه للناس.

النوع الثاني: هي الأرض الصلبة الجافة التي يستقر فيها الماء لكنها لا تشربه ولا تنبت الزرع، فهذه الأرض غير قابلة للحياة والنماء والخصب، وإنما نفعها في حفظ الماء للناس لينتفعوا به في الشرب والسقي والزرع وغير ذلك،  فهي لم تنتفع بالماء في نفسها بل حبسته لينتفع به غيرها، و هذا مثل الطائفة الثانية من الناس التي انصرفت إلى حفظ الشريعة وإيصالها للناس أكثر من انصرافها إلى العمل، فمن الناس من يحمل المعرفة بالوحي والشرع وليس لديه من الإيمان واليقين والشعور القلبي المتيقظ ما يتناسب مع هذه المعرفة، فلا يقوم بالأعمال الصالحة التي تنتظر من مثله، وإنما هو حافظ لعلم الشريعة يؤديه كما سمعه من غير فقه ولا استنباط، ويبلغه لمن هو أفقه منه وأكثر انتفاعاً وتقبلاً وإيمانا، وهذه الطائفة داخلة في المدح، وإن كانت دون الأولى في الدرجة والرتبة، ولذلك دعا لها النبي بقوله : ” نضّر اللهُ امرَءاً سمع منا حديثا فحفظه حتى يبلغه غيره فإنه رب حامل فقه ليس بفقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه….” الحديث (أخرجه أحمد)

النوع الثالث: هي الأرض المستوية الملساء التي لا تشرب الماء،  ولا تمسكه فينتفع به غيرها، ولاتصلح كذلك للإنبات والزرع، وهذا مثل الطائفة الثالثة المذمومة التي لم تحمل الوحي والعلم ولم تعمل بهما فلا هي انتفعت في نفسها ولا هي نفعت غيرها، وهذه الطائفة يلحقها من الذم بقدر ما فقدت من ذلك الخير،  فإن كان صاحبها من الذين أعرضوا عن الدين ولم يدخلوا فيه أصلاً،  فهذا هو الكافر الذي يستحق الذم كله،  وهو الذي لم يرفع بالإسلام رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسل به النبي، وإن كان له نصيب من الإسلام، لكنه لم يتعلم العلم ولم يعمل به ولم يبلغه لغيره فيلحقه من الذم بقدر ما فرط فيه.

فهذا المثل الذي ضربه النبي يدل على عظمة دعوة الإسلام ورسالته، وأنها اشتملت على كل خير ونفع  للبشرية، وإن وجد من الناس من لم ينتفع بهذه الرسالة ولم يستجب لهذه الدعوة فإن العيب منه لا من الإسلام،  فإن هذا الانتفاع مشروط بنقاء القلب من كل شبهة أوشهوة تعارضه، وفي الحديث أيضاً الحث على تعلم العلم وتعليمه للناس.

————-

* موقع إسلام ويب

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>