إن المتأمل في المسألة التعليمية عند المسلمين، ليجد نفسه أمام ثلاث مراحل مختلفة الطبيعة والمنهج والنتائج :
< المرحلة الأولى : مرحلة كان فيها الوحي الإلاهي وتطبيقاته النبوية، محور التعليم مضمونا ومنهجا، وبذلك تفتقت العقلية الإسلامية عن علوم شتى في مجالات متنوعة: المجال الديني، والمجال الإنساني والمجال المادي. ضابط هذه المرحلة المباركة الخضوع لحدود الله والسعي لخدمة الإنسان مهما تغيرت ظروفه وتنوعت حاجاته؛ يسعفها في ذلك الوعي بطبيعة الوحي الذي لا تنقضي عجائبه. وإدراك الطبيعة العملية لهذا الدين الذي لا يفترق فيه العلم عن العمل، ولا تفترق فيه الدنيا عن الآخرة.
< المرحلة الثانية : مرحلة انتقل عبرها العقل المسلم –غالبا- من محور الوحي المعصوم إلى محور آراء الرجال، وأصبحت غاية المتعلم تحصيل متون، يتنافس على حفظها المتنافسون، فمن ملك زمامها وما قيل في شرحها وحواشيها، فقد حصل العلم، وصارت مهمته تبليغ ما جمع بنفس طريقة تحصيله. فبدأ نبع العلوم في النضوب، وتقلص مجالها، وقل نفعها، وضعف الابتكار فيها، وبدأت في الانسحاب من مشاكل الناس وهمومهم. وانعكس كل ذلك على قوة المجتمعات الإسلامية، حتى أصبحت طعمة للمتربصين ودخلت نفق الضعف والتخلف.
< المرحلة الثالثة : مرحلة الاحتكاك مع الغرب، وهي مرحلة طابعها – غالبا – التقليد للمناهج التعليمية الغربية، التي ما تكاد تصل لمجتمعاتنا حتى تكون قد فقدت بريقها في موطنها الأصلي وظهرت عيوبها ونبذها أهلها. والنتيجة هي ما نراه من شكاوى متعددة عن أزمة التعليم، ومحاولات للإصلاح تراوح مكانها. وانطلاقا من القناعة الراسخة، بأن الطريق السليم للخروج بالأمة من أزمة التعليم، هي الرجوع إلى روح هذه الأمة : إلى القرآن الكريم، لبناء نظرية إسلامية في التعليم، نستبدل بها المناهج البشرية المتعددة، توَجَّه النظر لسيرة الرسول من أجل استخراج ما تيسر من عناصر، نراها أساسية في بناء النظرية الإسلامية في التعليم التي نطمح أن تنهض لبنائها همم عالية وعقول بانية. ويسوغ التوجهَ للسيرة النبوية من أجل تحقيق هذا الهدف، كونُها التطبيق العملي للقرآن الكريم، بالإضافة إلى أنها سيرة أعظم معلم عرفته البشرية. وقد تتبع الباحث جزئيات كثيرة من نصوص السيرة النبوية، وتوصل عن طريق منهج التحليلي التركيبي إلى عدة نتائج : السيرة النبوية مصدر ثري لاستخراج عناصر النظرية الإسلامية في التعليم، لما تختص به من خصائص، ولما أظهرته من نتائج باهرة. > أسس النظرية التعليمية من خلال السيرة النبوية هي :
< المعلم ذو الكفاءة العلمية والعملية والخلقية : الحريص على أداء مهمته، الصبور على متعلميه الرفيق بهم المتواضع لهم، والمشجع على التعلم والتعليم.
< المضامين العلمية الملائمة لطبيعة المتعلمين : المؤسسة على مكتسبات المتعلمين السابقة، القابلة للتنزيل في واقعهم، والسالكة نهج الوسطية والعدل.
< المنهج التعليمي الذي يعتمد عدة مبادئ: تكامل المهارات (الحفظ، الفهم، تطبيقات المعلم، تطبيقات المتعلم)، التمهيد للتعليم، تقريب المضامين، استنفار قدرات المتعلمين ومراعاة الفروق الفردية.
< الوسائل التعليمية، وقد امتازت في السيرة النبوية بعدة خصائص : التكامل، حيث زاوجت بين الحسي والمعنوي، والعقلي والوجداني؛ وخاصة الملاءمة للحاجات التعليمية، وخاصة التفاعل الوجداني والحركي والصوتي.
إن الخصائص التي توصل لها البحث تقوم على خاصيتي الواقعية والمرونة عند رسول الله ، فقد كانت حكمته مستحضِرة لأدق معطيات الواقع، مما انعكس على جميع أسس النظرية التعليمية وخصائصها، وطبعها بطابع المرونة التي تحرر العملية التعليمية من القوالب الجامدة المعممة على جميع المتعلمين وجميع الوضعيات.
وعليه فإن الباحث يوصي بالتوصيات الآتية :
< تكوين مجموعات البحث لبناء النظرية الإسلامية في التعليم .
< استقراء الأحاديث النبوية، لتجميع الهدي النبوي الكامل في التعليم، وبناء النظرية الإسلامية في هذا المجال.
< إعادة النظر –على ضوء السيرة النبوية- في طريقة اختيار المعلمين الغالبة والتي تركز على التحصيل المعرفي، واعتباره المحدد الأسمى لصلاحية المرشح للتدريس.
< إعادة النظر –على ضوء السيرة النبوية- في طريقة تكوين المعلمين، ولا سيما في الجوانب النفسية الخلقية والمهارية، بحيث يُمَكنون من مهارات ضبط النفس وحل المشكلات والتكيف مع مختلف الوضعيات.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
الدكتور بنعمر لخصاصي (أستاذ بجامعة القرويين – تطوان)