مدخــل إلى فقه منهـاج الإصـلاح في السيـرة النبويـة


يكتسي هذا الموضوع أهميته المعرفية والعملية الكبيرة، من كون الوعي بفقه منهاج الإصلاح في السيرة والسنة والقرآن عامة، يشكل المقصد الأساس من كل العلوم التي قامت على متن القرآن والسنة والسيرة النبوية الشريفة. فجل العلوم التي استحدثها المسلمون كانت تدور حول فهم مقاصد خطاب القرآن والسنة والسيرة أولا، تمهيدا لاستثمار معطيات هذا الخطاب في ضبط وإدارة الحياة الفردية والجماعية للناس في المجتمع ثانيا. فالعمل بخطاب الشرع هو الهدف، والفهم لمقاصد ذلك الخطاب هو المقدمة الشرطية الضرورية لإيقاعه على وجهه الصحيح. فالعمل الصالح هو هدف المعرفة والإيمان وغايتهما، والمعرفة والفهم أساس هذا العمل، وشرط اندراجه في مسار الأعمال الصالحة(1).
وبناء على كون المعرفة هي وسيلة إصلاح الحياة والاستمتاع الصحيح بها، فإن ذلك يقتضي ربط هذه المعرفة بحركة الحياة بشكل مطرد، وعدم فصلها عن ضروراتها وحاجاتها وتحسيناتها وتحدياتها بأي حال من الأحوال(2)، لأن انفصال المعرفة عن حركة الحياة، أو انفصال حركة الحياة عن المعرفة يخل بحياة الفرد والمجتمع، ويعرِّض وجودهما الدنيوي والأخروي لأخطار كبيرة، كما جاء التنبيه على ذلك في سورة العصر: وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ .
فوظيفيَّة المعرفة وفعاليتها العملية، ووظيفية الإيمان وفعاليته العملية، أمر أساس في الحياة، وهو ما جاءت الشريعة متناغمة معه تماما، فاقترن فيها الإيمان بالعمل الصالح بشكل مطرد، وارتبط كل منهما بالمعرفة العلمية السننية باستمرار، إلى درجة دعا فيها القرآن إلى إقامة كل شيء على المعرفة العلمية السننية الصحيحة، كما يتضح ذلك من قوله تعالى على سبيل المثال: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولا (الإسراء : 36). وهذا ما حدا بعلمائنا إلى التنبيه على عدم هدر الوقت والجهد فيما لا جدوى عملية فيه، أي فيما لا تأثير له بشكل مباشر أو غير مباشر على حركة الحياة عاجلا أم آجلا، فقال الشاطبي على سبيل المثال إن “كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض في ما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا”(3).
ولهذا فإن من أخطر ما تصاب به المنظومات الثقافية، هو انفصال المعرفة فيها عن غاياتها العملية المرتبطة بحاجات المجتمع وتحدياته وتطلعاته الحضارية الراهنة. فتصبح حينئذ ثقافة نظرية أثرية تحفظ وتردد خارج سياق حركة المدافعة والمداولة الحضارية الآنية الناظمة لحركة الحياة البشرية الفعلية، وتتحول مع مرور الوقت إلى معارف مستقلة بنفسها، تُدرس لذاتها ! ولا شك أن هذا النوع من الثقافة يصبح غير ذي جدوى عملية، بل يراه البعض معرفة هامشية وربما ميتة أو مميتة، كما يقول مالك بن نبي “كل حقيقة لا تؤثر على الثالوث الاجتماعي: الأشخاص، والأفكار، والأشياء، هي حقيقة ميتة”(4).
والموضوع الذي نحن بصدده الآن وهو: الوعي بأفق فقه منهاج الإصلاح في السيرة النبوية، يشكل مصبا محوريا لكل الدراسات التي قامت على هامش متن السيرة والسنة النبوية الشريفة، ومتن القرآن الكريم قبل ذلك، والتي شكلت مقدمات معرفية ضرورية لمرحلة معرفية أهم منها، وهي مرحلة استثمار المعطيات المعرفية للسيرة والسنة النبوية والقرآن الكريم، في إصلاح حياة الإنسان فردا ومجتمعا وأمة وعالما، وملاءة أوضاعها جميعا بشكل مطرد، مع مقتضيات منطق المدافعة والمداولة الحضارية المهيمن على الصيرورات الحضارية لحركة الاستخلاف البشري في الأرض.
فالإصلاح الفعلي لواقع الحياة الإنسانية، هو المدار الذي تتحرك عليه ونحوه الحياة البشرية باستمرار، وتأسست من أجله العلوم المختلفة، وجاءت الرسالات السماوية كلها(5)، وقامت حركات التجديد عبر العصور والبيئات(6)، كما جاء بيان ذلك في القرآن الكريم في مثل قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين (النحل : 36). وقوله سبحانه على لسان شعيب : وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيب (هود : 88).
فما هو يا ترى مفهوم الإصلاح الذي تتمحور حوله الحياة البشرية؟ وما هو مفهومه وأفقه وفقهه المنهاجي في ضوء السيرة النبوية الشريفة؟ باعتبارها السيرة التي اجتمع فيها من الهدي والوعي والكمال، ما تفرق في كل سير الأنبياء والرسل السابقين(7)، كما جاءت الإشارة إلى ذلك في القرآن: أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (الأنعام: 90)، فقد بلغ من الكمال مبلغا “لم يبلغه أحد من أكابر الأنبياء والرسل” (8)، ولذلك استحق بأن يكون القدوة العليا للبشر على مر الأجيال، كما جاء ذلك في القرآن: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد (الممتحنة : 6).

الدكتور الطيب برغـوث مدير أكاديمية السننية للدراسات الحضارية النرويج

———-
1 – عبد الحميد بن باديس، مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير، دار البعث، قسنطينة، الجزائر 1982، ص/139
2 – محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة، الشركة التونسية للتوزيع، تونس 1978 . ص/57
3 – أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات، تحقيق عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، ج1/46
4 – مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، دار الفكر، دمشق ، سورية 1986. ص/93
5 – محمد رشيد رضا، تفسير المنار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1990، ج 12/193
6 – أنظر: بسطامي محمد سعيد، مفهوم التجديد، ط2، مركز التأصيل، جدة، السعودية 2012. ص/ 51
7 – محمد الطاهر بن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس 1984 ، ج7/359
8 – أبو عبد الله محمد بن علي بن الأزرق، بدائع السلك في طبائع الملك، تحقيق سامي النشار، نسخة المكتبة الشاملة، ص/290

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>