لعل إلقاء نظرة على الواقع المعاصر، تحمل على القول بأن دور المسجد بدأ يشهد تراجعا على مستوى الرسالة التعليمية والتربوية التي كان يؤديها إلى عهد قريب في تاريخ المسلمين، بسبب إسناد منصب الخطابة الدينية في المساجد إلى بعض الأشخاص من ذوي الكفاءة الضعيفة.
وإذا أخذنا خطبة الجمعة باعتبارها علامة على هذا التراجع لدور المسجد، فإن المرء لا يحتاج إلى كثير تأمل حتى يدرك مدى الضعف والقصور العلمي الذي وصلت إليه بعض خطب الجمعة. مما يستوجب التذكير بمجموعة من الضوابط المنهجية الواجب توفرها في كل خطبة جمعة حتى تكون ناجحة.
1 ـ الضابط الأول: الاعتناء بالناحية اللغوية للخطبة:
ويتجلى ذلك فيما يلي:
أـ سلامة الخطبة من الأخطاء اللغوية:
ولن يتأتى ذلك للخطيب، إلا بالعمل على إثراء ثقافته اللغوية عن طريق الاطلاع على بعض الكتب المؤلفة في هذا المجال. حيث لم يعد مقبولا أن يسمح لكل أحد، أن يرتقي المنبر يوم الجمعة لكي يلقي على جموع المصلين خطبة مليئة بالأخطاء.
ونظرا لأهمية الثقافة اللغوية للخطيب، نجد الدكتور يوسف القرضاوي في كتابه (ثقافة الداعية) قد جعلها من الثقافات التي تلزمه لزوم الوسائل والأدوات، أو بتعبير علماء الأصول فإن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛ فإذا كان الخطيب حريصا على إيصال خطاب الشريعة إلى جموع المصلين بشكل سليم لا يكتنفه غموض ولا التباس، فليس أمامه إلا إتقان اللغة العربية التي تعد (لازمة لسلامة اللسان، وصحة الأداء، فضلا عن حسن أثرها في السامع، بل صحة الفهم، فالأخطاء اللغوية إن لم تحرف المعنى وتشوه المراد يمجها الطبع وينفر منها السمع). وعن عمر بن الخطاب أنه قال: (تعلموا العربية، فإنها تزيد في المروءة). وقد ورد عن جماعة من السلف أنهم كانوا يضربون أولادهم على اللحن.
ب ـ تجنب الأسلوب الإنشائي المنمق: الذي يقول كل شيء ولا يقول أي شيء! وقد جرت عادة بعض الخطباء في المساجد، أن يبدأوا خطبهم بجمل تعتمد الموازنات الصوتية، حتى يظن السامع أنه في مجلس لسماع مقامة من مقامات الحريري وليس في مجلس لسماع خطبة الجمعة.
لقد أصبح خطباء الجمعة في هذا العصر الذي أضحت فيه أوقات الناس ضيقة وأشغالهم كثيرة، في مسيس الحاجة إلى أسلوب يكون القصد منه إيصال مضمون الخطبة إلى أكبر عدد ممكن من المصلين، بأسلوب مختصر وبعبارات بسيطة يفهمها الجميع، وأسوتنا في ذلك رسولنا الكريم ، الذي كان ينهى عن التقعر في الكلام، وأحاديثه النبوية الشريفة تشهد على أن جمالها كامن في بساطتها وبعدها عن الغامض والمتقعر من الألفاظ.
2 ـ الضابط الثاني: الحرص على الالتزام بالهدي النبوي في الخطبة.
كما لا يخفى فإن المسلم كما هو مأمور باتباع أوامر الرسول واجتناب نواهيه، فإنه أيضا مأمور باتباع الهدي النبوي في كل تصرفاته، باستثناء تلك التي تصرف فيها الرسول بحكم جبلته التي تختلف من شخص لآخر، أو تلك التي اختص بها الرسول بحكم نبوته.
إذن فمن أوجب الواجبات على الإمام، الحرص على الالتزام بالهدي النبوي في شؤونه كلها، ومنها الخطبة. والملاحظ في هذا الصدد أنه بقدر تفريط المرء في الالتزام بالسنة، بقدر ما يقع في الابتداع.
ويكفي المسلمَ لكي يعرف هدي الرسول في كل أحواله، أن يدمن الإطلاع على مثل كتاب (زاد المعاد في هدى خير العباد) لابن قيم الجوزية.
ومن الأمور ذات الصلة بالهدي النبوي المتعلقة بخطبة الجمعة نذكر:
أ ـ تصدير الخطبة بخطبة الحاجة: من الأمور ذات الصلة بالتزام الهدي النبوي في هذا الصدد، أن يحرص الخطيب على تصدير خطبته بخطبة الحاجة، كما كان الرسول يفعل في خطبه القولية.
ب ـ الحرص على الاستشهاد بالصحيح من الأحاديث: يحسن بالإمام أن يحرص على أن تكون الأحاديث التي يستشهد بها في خطبته صحيحة، ويبتعد عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة. كما أن على الخطيب أن يحرص على تخريج الأحاديث التي يستشهد بها، وذلك حتى يخلق حالة من الاطمئنان لدى من يستمع إليه بخصوص صحة المعلومات التي يتلقاها منه حول دينه. ومن هنا نعلم خطأ بعض الخطباء الذين يعتمدون على أي كتاب كيفما كان، لكي يأخذوا منه الأحاديث التي يستشهدون بها في خطبهم.
3 ـ الضابط الثالث: فقه الإمام محيطه الاجتماعي:
ويتجلى ذلك فيما يلي:
أ ـ موافقة الخطبة الزمان والمكان والحال: قال جمال الدين القاسمي في كتابه الرائع (إصلاح المساجد من البدع والعوائد): (قال بعض الفضلاء: أبلغ الخطب ما وافق الزمان والمكان والحال، ففي زمان صيام رمضان مثلا يبين الخطيب للناس حكمه وأحكامه المقصودة منه، وينهاهم عن البدع التي تحدث فيه مبينا ضررها، وفي عيد الفطر يبين أحكام صدقة الفطر، ولا يحسن به أن يستبدلها ببيان أحكام الأضحية أو غير ذلك ويتركها بتاتا. وفي مكان تفرق أهله يخطب فيهم بالاتحاد، أو تكاسلوا عن طلب العلم حثهم عليه، أو أهملوا أبناءهم حثهم أيضا.. إلى غير ذلك مما يوافق أحوالهم ويلائم مشاربهم ويناسب طباعهم. يخطب في كل مكان بحسبه مراعيا أحوال العالم بصيرا بمقترفاتهم الحاصلة في خلال الأسبوع، فينهاهم عنها وينبههم عليها متى رقي منبر الخطابة، عسى أن يهتدوا طريقا قويما). إذن فعلى الخطيب أن يكون ابن بيئته، يراقب أحوالها والاختلالات الحاصلة فيها، حتى يتسنى له إصلاحها ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وقد كان رسول الله . يستثمر ما كان يحدث من انحراف في محيطه الاجتماعي فيرتقي المنبر مخاطبا أصحابه بكلماته المشهورة: ما بال أقوام يفعلون كذا أو يقولون كذا، وما ذلك إلا وعي من الرسول ، إن دور خطبة الجمعة يجب أن ينصب على إصلاح الاختلالات التي تقع داخل المجتمع.
ب ـ التركيز على المسائل التي لا تثير خلافا بين المصلين: إن خطبة الجمعة موعظة، غايتها مخاطبة الضمير الوجداني لدى المستمع، وبالتالي يجب على الإمام أن يختار موضوع خطبته من المواضيع التي لا يكون التطرق إليها مثار فتنة بين المصلين، حرصا منه على أن تؤدي خطبة الجمعة دورها التربوي والتوجيهي.
4ـ الضابط الرابع: الناحية المتعلقة بشخص الإمام:
ويتعلق ذلك بأمور منها:
أ ـ حسن السيرة والسلوك: يجدر بالإمام أن يكون حسن السيرة حسن السلوك، يوافق فعله قوله، وفي الحديث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله : أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار، كلما قرضت وفت. فقلت:يا جبريل من هؤلاء؟ قال خطباء من أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون). وللإمام الشاطبي في هذا الصدد كلمات ضمنها الفصل الخامس من (موافقاته)، من ذلك قوله: (إذا حصل البيان بالقول والفعل المطابق للقول فهو الغاية في البيان).
وقد أورد جمال الدين القاسمي جملة من الشروط التي يجب توفرها في الإمام فقال: (يشترط في الخطيب أن يكون عالما:
1 – بالعقائد الصحيحة: حتى لا يزيغ ويؤذي الناس بسوء عقيدته في درك ظلمات الضلال فتسوء العقبى.
2 – وعلم الفروع: كي يصحح العبادات بما علمه من علم الفقه، ولأنه عرضة أن يسأله المأمومون في الأحكام، فيجيبهم عن حقيقة، ويهديهم بنور الشريعة إلى صراط مستقيم، لا يهرف ويخبط خبط عشواء في أمور الدين بجهالاته.
3 – و (اللغة العربية): وبالأخص علم الإنشاء كي يقتدر على تأليف كلام بليغ، وتنسيق درر مضيئة يشرق نور أسرارها على أفئدة السامعين؛ فيسحرهم ببديع لفظه ويختلب ألبابهم بجواهر آيات وعظه.
4 – وأن يكون (نبِيها) كي لا تعزب عنه شاردة إلا أحصاها ولا واردة إلا استقصاها، ولينظر بمنظار التأمل والانتقاد ويغوص في بحار الشريعة فيستخرج لآلئ الأحكام ودررها، من غير ما يعتريها تشويه ولا يشوبها كلل.
5 – وأن يكون (لسِنا) فصيحا منطلق اللسان معبرا عما يخطر بباله من المعاني الكامنة في ضميره، يبرز ما انطوت عليه السريرة من جليل النصائح وجميل الإرشادات، مما يكفل السعادة للعباد.
6 – (ووجيها) تهابه القلوب وتجله العيون، وتعظمه النفوس، يهابه الصغير ويوقره الكبير، حتى يكون لكلامه تأثير ويجد له سميعا يعي ما يقال، ويعمل بما يسمع.
7 – و(صالحا) تقيا مهذبا ورعا قنوعا زاهدا غير متجاهر بمعصية، ولا متلبسا بمخالفة، يفعل ما يقول فإن ذلك أدعى إلى قبول الموعظة منه.
ب- الإعداد المسبق للخطبة:
إذ من المهم أن يحرص الخطيب على أن يعد خطبته إعدادا مسبقا، وذلك بتحديد موضوع الخطبة وفكرتها الرئيسة بشكل يمنع الخطيب من الخروج عن موضوع الخطبة وهو فوق المنبر، فبعض الخطباء لا يهتمون بهذه القضية فيتكلم في كل شيء… وتكون النتيجة أن الناس لا يخرجون من عنده بأي شيء نظرا لتبعثر أفكار ما ألقى من كلام، وعدم انسجامه في نفسه، وإنما وحدة الموضوع تعصم الخطبة من التبعثر وتصونها من التمزق وعدم الانسجام.
ومن الإعداد اختيار الأدلة القرآنية والحديثية المناسبة، دون الإكثار، وإنما يكتفى بالأوضح والأبين والأوفق للموضوع دلالة وسياقا.
5ـ الضابط الخامس: انتقاء الكتب المعتمدة في إعداد الخطبة.
يحسن بالخطيب أن ينتقي الكتب التي يعتمد عليها في إعداد خطبته، إذ ليس كل كتاب يعتمد عليه، فهناك كتب قلل العلماء من قيمتها العلمية، كبعض كتب التفسير المليئة بالإسرائيليات، أو بعض الكتب المشحونة بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، وهنا يجب التحذير من اعتماد الخطيب على نوع خاص من الكتب، وهي تلك التي تمتلئ ببعض الحكايات العجيبة والغريبة التي لا تقبل في ميزان الشرع.
ولا بأس هنا من التمثيل لهذه الكتب التي يرجع إليها البعض من الأئمة بمثل كتاب (الإبريز) لعبد العزيز الدباغ الفاسي، الذي يشكل ـ حسب الدكتور فريد الأنصاري ـ نموذجا (للكتب الطرقية التي سادت عصور الانحطاط والتي تركز على ذكر كرامات الشيخ وعجائبه وخوارقه).
ختاما أقول: إن على الخطيب أن يقدر جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقه، والمتمثلة في نقل معرفة صحيحة وسالمة من الشوائب والأكدار، ولن يتأتى له ذلك إلا بانضباطه بكثير من الضوابط العلمية والمنهجية والسلوكية.
ذ. محمد منديل