الكليات السننية لفقه الاجتماع البشري في ضوء السيرة النبوية


تهدف هذه الورقة إلى تقديم نظرات منهجية ومعرفية خادمة لأفق فقه السيرة النبوية، وتحديدا فقه الاجتماع والعمران البشري إسهاما منا في إبراز تلك الإمكانات الحضارية للسيرة النبوية وقدرتها على تمكين الأمة اليوم من استعادة ريادتها في صناعة الحضارة وتوجيه حركة التاريخ، وذلك من خلال الكشف عن الكليات السننية التي أرشد إليها الهدي النبوي والتي تنتظم وفقها ظواهر الاجتماع البشري، حيث تمثل الكليات السننية النبوية علاجا للمأزق الاجتماعي/الحضاري الراهن وتقدم للعقل المسلم أدوات الكشف عن علل العمران البشري وتسعفه في فهمها وإصلاحها بمنطق سنني متوازن ومتكامل. وقد تناولنا في هذه الدراسة المحاور الآتية:
- الإطار الإشكالي لموضوع البحث ومجاله الدلالي والتداولي.
- السيرة النبوية مصدرا للكليات السننية لفقه الاجتماع البشري.
- محددات منهاجية في ضبط الكليات السننية من السيرة النبوية.
- الكليات السننية لفقه العمران البشري.
ولقد تأسس هذا البحث على إشكال تجديد أفق خدمة السيرة النبوية نظرا وعملا وكيف يمكن للأمة اليوم في شخص نخبها العلمية والفكرية وقياداتها الدعوية والسياسية ومؤسساتها الفقهية والاجتماعية والاقتصادية أن تحكم صنعة الكليات السننية لفقه الاجتماع البشري مستهدية في ذلك ببصائر وأنوار السيرة النبوية؟ وما هي هذه الكليات السننية لفقه الاجتماع البشري في ضوء السيرة النبوية ومحدداتها المنهاجية؟
وإذا كنا قد فصلنا القول في دلالات مصطلح السنن والكليات السننية مبينين أن الكليات السننية هي تلك الأصول والمبادئ الحاكمة والنواظم المنهجية العامة والموجهات المعرفية الكبرى التي تنتظم داخلها مجمل السنن وتحكم رؤيتنا لها في فهم الاجتماع البشري، فقد أكدنا بعد ذلك على محددات منهاجية في ضبط الكليات السننية من السيرة النبوية يمكن تلخيصها فيما يلي:
أ- إحكام وتحكيم فقه النص.
ب- إحكام فقه الواقع.
ج- إحكام فقه الموقع.
د- إحكام النظر المآلي.
وقد اعتبرنا الكليات السننية للعمران البشري في المنهج النبوي مثل سائر كليات الدين وأصول الشريعة جارية على حكم العموم والثبات والاطراد، وأنها حاكمة على الجزئيات لا محكوما عليها. وقد خلصنا إلى صياغة مجموعة من الكليات السننية:
< الكلية الأولى : وهي كلية مقصدية السنن أي أن كل سنة من السنن تتعارض مع مقاصد الدين وكلياته فهي من الدين عارية. فالمصلحة كل المصلحة في عدم مصادمة السنن لحقائق الدين ومقاصده.
< الكلية الثانية : وهي كلية الفعالية والأصالة أي أن كل سنة تشريعية أصيلة تتحقق بعدم معارضتها لفعالية سنة من سنن الاجتماع البشري: فإذا كان كسر الأوثان وتحطيم الأصنام ومحاربة الشرك في صوره المادية المجسدة سنة تشريعية، فإن الرسول لم يشغل نفسه بإزالتها وتحطيمها، ولم يأمر أصحابه بذلك واعتبر ذلك مناقضا ومنافيا لفعالية سنن الاجتماع والعمران حيث لن تتحقق تلك السنة التشريعية في أصالتها إلا حينما تعاد صياغة الرؤية العقدية والمنهجية للفرد والمجتمع فيحصل تحطيم الأصنام فكريا ونفسيا لتتحطم ماديا وواقعيا وفق سنن الله في الاجتماع والعمران.
< الكلية الثالثة : كلية الارتباط والتناغم بين السنن التشريعية والآيات الآفاقية والنفسية وسنن التاريخ والاجتماع والعمران البشري، وأن الإخلال بواحدة منها أو مخالفتها ينتج عنه بالضرورة مصادمة مع السنن الأخرى.
< الكلية الرابعة : اعتبار المآل شرطاً في صحة النظر السنني أي تعلق كل سنة بمناطات تحقيقها ومآلات وقوعها.
< الكلية الخامسة : كلية الاستباقية الوقائية والاستشرافية التي تنشأ عن قاعدة اعتبار المآل من حيث هي كلية قائمة على متابعة الواقع ورصد تفاعلاته وتبصر آفاقه المستقبلية. وهي كلية سننية تندرج ضمن جهود النبي «اقرأ المزيد حول فضل الصلاة على النبي» في حماية المشروع الرسالي وتوفير الضمانات الوقائية الكافية تحسبا لاحتمالات ممكنة قد تأتي سلبا على مكتسبات سابقة.
< الكلية السادسة : أن السنن تتكامل ولا تتعارض، فهي من عند الله تعالى.
< الكلية السابعة : كلية وجوب منازعة السنن ومدافعة بعضها ببعض.
< الكلية الثامنة : كلية المبدئية المبصرة والواقعية المنضبطة.
إن الحديث عن الكليات السننية في الفقه العمراني النبوي حديث طويل الذيول يحتاج إلى تتبع وجمع واستقراء واستنباط ومدارسة للروايات والوقائع، وإطالة النظر فيها، مع الاستعانة بمناهج الأصوليين وقواعدهم، وبمناهج الاجتماعيين والإنسانيين وطرائقهم، وهذه الكليات هي بلا شك جزء من ذلك الفقه الذي يدخل إلى القلوب بغير استئذان. وهو ما يحتاج إلى إفراغ الوسع وبذل الجهد للقيام بذلك خدمة للسيرة النبوية، ونهوضا بالأمة الإسلامية لاسترجاع ريادتها الحضارية العالمية.
وفي الأخير ختمنا بحثنا بالقول إن الإحكام المنهجي والمعرفي لفقه الكليات السننية من السيرة النبوية- كأفق من آفاق خدمتها-؛ إحكام علم وتسخير وتبليغ هو الكفيل بتنمية الفاعليات القادرة على المدافعة الاجتماعية وخوض عوالم التداول والابتلاء والتجديد في اتجاه الإسهام بتقديم حلول لإخراج الحضارة المعاصرة مما تعيشه من أزمات واختلالات، ولعل ذلك واحد من الأدوار التي ينبغي أن يضطلع بها الباحثون والعلماء ورجال الدعوة والإصلاح في عالمنا المعاصر.

الدكتور عزيز البطيوي (أستاذ بجامعة ابن زهر – أكادير- المغرب)

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>