الجلسة الثالثة : أفق خدمة فقه السياسة والاجتماع ومنهاج الإصلاح في السيرة النبوية


المواطنة في الأفق السياسي للسيرة النبوية (من خلال حجة الوداع)
إذا كانت المواطنة تعني في مفهومها الأساسي أن يكون جميع الأفراد المنتسبين إلى ذات الدولة تقف الدولة منهم على نفس المسافة فيما يقتضيه ذلك الانتساب من حقوق وواجبات، فإنّ خطبة الرسول الكريم في حجّة الوداع وتصرّفاته خلال تلك الحجّة تكاد تكون متمحّضة لتفصيل مقتضيات هذه المواطنة متمثّلة في العدل والمساواة بين أفراد الأمّة في علاقتهم بالدولة وفي علاقاتهم الاجتماعية فيما بينهم.
ومن الجدير بالملاحظة أنّه حينما يكون هذا المشهد العظيم من مشاهد المساواة في حجّة الوداع قائما عليه النبيّ الكريم وهو الذي اجتمعت فيه الصفة النبوية التي تقتضي البلاغ والتربية وصفة رئاسة الدولة التي تقتضي البيان السياسي، فإنّ الدرس الذي ينبغي أن يستخلص منه ليس درسا تربويا أخلاقيا فحسب، وإنما هو درس سياسي أيضا يؤّسس لعلاقة المواطنين الحجّاج بالدولة، وهي علاقة المساواة فيما بينهم إزاء الدولة فيما يطمحون إليه إزاءها من حقوق، وفيما تنتظرهم هي منهم من واجبات؛ ولذلك فإن كلّ ما جاء في حجّة الوداع من البيانات والتصرّفات إنما هو مندرج ضمن التأسيس النبوي للدولة التي يعهد بها إلى الأمّة بعده في منتهى حياته كما عهد بها إليها في وثيقة المدينة عند ابتداء التأسيس في المدينة المنوّرة. وعلى هذا الأساس فإننا سنعتبر البيانات النبوية في حجّة الوداع هي بيانات للتأسيس السياسي للدولة.
يقوم هذا التأسيس على مبدإ المواطنة الذي يقوم هو بدوره على العدل والمساواة، فالمتأمّل في حجة الوداع وما ورد فيها من أقوال وأفعال نبوية يكاد لا يجد موقفا من مواقفها، ولا مقطعا من مقاطع خطبها خاليا من توجيه يتعلّق بمبدإ العدل، سواء كان ذلك بصفة مباشرة أو بصفة ضمنية؛ ولذلك فإننا كما أشرنا سابقا يمكن أن نعتبر هذه الحجة مدرسة لتعليم العدل والمساواة.
ولعلّ من الحكمة النبوية أنّ هذه المدرسة من أجل ترسيخ قيمة العدل في النفوس، وتثبيتها في الأذهان، وتمكينها في الإيمان وجعلها الرابطة التي تربط الناس ببعضهم وتربطهم بالدولة جاء التعليم فيها بأساليب مختلفة تصريحا وتلميحا وإيحاء، وللنفوس مداخل مختلفة يدخل منها الخطاب النبوي إليها ليثبّت فيها المبادئ والمفاهيم، ومن خلال قضايا متعدّدة ومتنوّعة، إذ العدل مبدأ عام يتخلّل مناطق واسعة من تصرّفات الإنسان، فتنويع المداخل، وتعديد المسائل والقضايا فيما يتعلّق بتقرير النبي الكريم مبدأ العدل في هذه الحجة يندرج ضمن ما كان يوليه لهذا المبدإ من أهمية لسلامة الدولة من بعده، كما يندرج من جهة أخرى ضمن حكمته النبوية في نجاعة البلاغ، وأداء الأمانة؛ ولذلك فإن من يروم أن يتبيّن العدل من الهدي النبوي في حجة الوداع ينبغي أن يتبيّنه في مقامات متعددة من هذه الحجّة، وفي قضايا مختلفة ورد فيها الهدي النبوي. وفي كلّ مظهر من مظاهر ذلك العدل كما بيّنه النبي أثر في المجتمع يرتفع به درجة في الكفاءة لإقامة الدين على الوجه المطلوب.
إنّ مبدأ العدل والمساواة بين جميع الأفراد في تعاملهم مع الدولة وتعامل الدولة معهم هو المحور الأساسي الذي يقوم عليه مفهوم المواطنة في التصور الإسلامي؛ ولذلك جاءت حجّة الوداع وهي الفرصة الأكبر للنبي للبلاغ الديني الأخلاقي والبيان السياسي لنمط الدولة التي يبشّر بها طيلة الحياة النبوية تبدئ القول وتعيد في مبدإ المساواة الذي هو جوهر المواطنة، حتى كان هو المحور الأساسي الذي قامت عليه الخطب النبوية في ذلك الحشد العظيم من الناس.
والله ولي التوفيق
الدكتور عبد المجيد النجار (أستاذ بجامعة الزيتونة تونس)
———————–
راجع في ما تقدّم كتابنا ـ مراجعات في الفكر الإسلامي: 381 وما بعدها

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>