وإذا كانت سفينة مجتمعنا المغربي يستتب أمرها ويستقيم إبحارها بتوفر ربان ماهر يدبر دفة الأمور بحكمة وروية، وبعد نظر يأخذ في الحسبان كل عناصر المشهد، ويعطي سائر عناصر الكيان حقوقها على أساس من العدل والقسط، فإن هذه السفينة تكون معرضة للشروخ والخروق والتصدعات في إحدى حالتين: أولاهما أن يسطو على زمامها ربان يفتقد إلى المهارة والنضج، فضلا عن الحكمة التي تؤهله لمواجهة الرياح والأمواج، وسوق السفينة إلى بر الأمان، وثانيهما أن تشيع فيها «ثقافة» التعصب، ويكثر المتعصبون، وخاصة من يأخذون على عواتقهم مهمة التنظير لهذه «الثقافة» المريضة التي تسمم الأجواء، وتزرع الإحن والأحقاد، والتي يتخذونها مطية لبلوغ مآربهم الدنيئة وأهدافهم الخسيسة، ولا يهمهم بعدها أن ترتطم السفينة بالصخور، أو تبتلعها الأمواج.
ومن قبائح التعصب أنه يحجب عن المصاب به كل الحقائق والوقائع، فلا يرى إلا ما تريه إياه عصبيته التي تقتضي منه أن يدور حول أفكاره المغلوطة وخيالاته المريضة دوران الحمار حول الرحى، ولا يكاد يبرحها -إن حصل في أحوال نادرة- إلا ليعود إليها عودة المهووس المسكون برعب شديد، مخافة السقوط في هوة التيه والفراغ، أو الشعور الكاسح بفقدان قضيته التي يتعيش بها ولا يرضى بها بديلا وإن كانت هي الباطل بعينه.
وإن المتابع للمشهد الثقافي والفكري في مجتمعنا المغربي لا تخطئ عينه نماذج من المتعصبين المشهود لهم بالإمامة في معانقة التوجهات الشاذة والغريبة المشاكسة لمصلحة السفينة وسلامتها، ويتبجحون في الإعلان عنها في المحافل، وعبر كل الوسائل والمنصات.
وأمثل في هذا المقام بنموذج شرس في عصبيته للأمازيغية، مستميت في الدفاع عنها باعتبارها لديه قضية مقدسة قداسة الدين وتعاليمه، فهو لا يمل من لوكها وتعبئة أنصارها وتحريضهم على الإخلاص في حملها والحذر من كل من يتربص بها أو ينتقص من قدرها.
ولست أقصد هنا بالأمازيغية اللغة، فهي تقتسم مع غيرها من اللغات أو الألسنة التعبير عن آية من آيات الله المتمثلة في اختلاف الألسنة الواردة في قوله تعالى: ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين (الروم: 22)، وإنما أقصد ما يرمي إليه دعاة الأمازيغية من اعتبارها بديلا عن العربية والإسلام، أي اعتبارها لغة ودينا وثقافة وحضارة ينبغي أن تشكل كيانا مستقلا ينزع إلى التضخم مع الزمن إلى زحزحة العرب والمسلمين باعتبارهم غزاة أو دخلاء.
النموذج الذي أقصد أن أضربه مثلا للتعصب المذموم، ظهر في أحد البرامج التلفزيونية المخصصة للشأن الأمازيغي، والتي يتولى إعدادها وتقديمها أسبوعيا على قناة «المغربية»، ظهر في الحلقة الماضية، أي الأربعاء 26 ـ 11 ـ 2014، في حوار مع ضيفه الذي هو مفكر متخصص في علم الاجتماع السياسي. لقد كان مقدم البرنامج طيلة لحظات الحوار يداور ويناور من أجل أن يجر ضيف البرنامج إلى أطروحته التي تتمثل في الإيمان بمظلومية الأمازيغية كشعب ولغة وثقافة وكل شيء، ولكنه وجد نفسه أمام رجل حنكته تجربة البحث السوسيولوجي العميق، وأنضجته خبرته وإيمانه بالوطن المغربي ككيان موحد ينبغي أن يصون مكاسبه الوحدوية وينأى عن كل النعرات التي تؤدي به إلى التفكك والتشرذم، أو إلى التشكيك في إمكانيات الحفاظ على التماسك والأمن، بدعوى أن مكونا من مكونات المجتمع المغربي، هو الأمازيغية، مهضوم الجانب، على مستوى الوجود، ليس الاجتماعي فقط، وإنما الوجود العقدي والحضاري، كما سبقت الإشارة.
لقد ظل عالم الاجتماع طوال حلقة البرنامج مستعصيا على الاختراق والاستدراج، وأنى للمتسلح بأفكار متكلسة قائمة على التعصب والتحيز أن يقف أمام متسلح بالعلم والمعرفة والخبرة الواسعة بالواقع ومكوناته، واسع الأفق بسبب إيمانه بقضية الوطن الكبرى: قضية الوحدة القائمة على ثوابت هوية الأمة الحضارية التي تنصهر فيها جميع الألوان والخصوصيات.
إن سفينة المجتمع المغربي تحتاج من بين ما تحتاج إليه، لسلامة الإبحار، إلى إشاعة ثقافة الحوار المسلح بالعلم والمعرفة، والتي تنسف، عبر الحوار الهادئ والسجالات العلمية، كل المهاترات والأطروحات المزيفة التي تعرقل السير وتعطل الطاقات، والتي هي من بنات الهوى الذي لا يستقيم معه أمر ولا يقوم به كيان.
يقول الله تعالى: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلا (الفرقان:43)، ويقول سبحانه وتعالى:» وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُونَ (المؤمنون 71).