نظرة مقاصدية في مباحث الأسرة (3/3)


مقومات الحياة الزوجية

وإن من مقومات الحياة الزوجية السعيدة:

أولا: صدق المشاعر:

فعليه يقوم صرح الأسرة المسلمة، وهو الطاقة الروحية المغذية للسكينة والمودة والرحمة بين الزوجين أولا، وبين الأصول والفروع ثانيا، وبين قرابة النسب ثالثا، وبين الأصهار رابعا.

فالحياة الزوجية حسب الدكتور الطيب: «تكون خصبة وممتعة وسعيدة ومنتجة ومؤثرة فيما حولها بقدر ما يتوافر فيها من صدق وطهارة مشاعر المحبة بين الزوجين. وتكون جافة ومتعبة وسلبية بقدر ما يضعف فيها صدق وطهارة مشاعر المحبة بينهما. تلك هي قاعدة الزواج المركزية التي ينبغي الحرص عليها كثيرا أثناء التحضير للزواج وخلال الحياة الزوجية»

وهذه المشاعر لا بد من إظهارها للطرف الآخر. ولا بد من التعبير عنها بشتى الوسائل المتاحة والممكنة، وعدم الاستهانة بها. ولنا في رسول الله  أسوة حسنة : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا (الأحزاب 21).

فقد كان  يشرب من الإناء الذي تشرب منه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. بل إنه كان يتتبع موضع فيها.

ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت، كنت أشرب وأنا حائض، ثم أناوله النبي  فيضع فاه على موضع في فيشرب، الحديث.

وهذا سلوك من شأنه أن يقوي أواصر المحبة بين الزوجين المتحابين ويديمها، ويزرع فيها الثقة والاحترام.

كما كان  يقبل زوجاته وهو صائم. أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: إن كان رسول الله  ليقبل بعض أزواجه وهو صائم، ثم ضحكت.

ويصحب  زوجاته معه في رحلاته وأسفاره . فقد أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها أن النبي  كان إذا خرج أقرع بين نسائه. الحديث.

وكان  يحرص على إدخال السرور على نسائه كما في قصة تركه لعائشة تتفرج على لعب الحبشة.

أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : رأيت النبي  يسترني بردائه، وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد، حتى أكون أنا الذي أسأم، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن، الحريصة على اللهو.

ومسابقته  لها.

عن عائشة قالت : سابقني النبي  فسبقته، فلبثنا حتى إذا رهقني اللحم سابقني فسبقني فقال : هذه بتلك.

وغيرها من المواقف التي لا تحصى.

وحري بنا أن نستن بسنته  في إنماء هذه المشاعر وإذكائها حتى إذا نشأ الأبناء في بيئة تسودها هذه المشاعر. «سينشأون بمشاعر صادقة وطاهرة نحو والديهم ومحيطهم الأسري والاجتماعي الواسع، وإذا قدر لهم أن يتزوجوا مستقبلا فإن المودة والرحمة والسكينة ستعمر حياتهم، وستنالنا بركات دعواتهم وأعمالهم الصالحة في الحياة وبعد الممات. قال : إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.

ثانيا: الاتصاف بالسماحة في المعاملة:

وهو سر من أسرار نجاح الحياة الزوجية قال تعالى: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن (فصلت 34).

فلا بد من الدفع بالتي هي أحسن حفاظا على المشاعر المذكورة سلفا، ولا بد من الصفح والعفو والتسامح والإيثار والتعاون «فالسماحة في المعاملة الزوجية خاصة، ومع الخلق عامة، قمة عالية من قمم التزكية النفسية، ومستوى متقدم من مستويات النضج الفكري والعاطفي والروحي، ومقياس أساسي من مقاييس الرقي السلوكي لدى الإنسان فينبغي لكل أحد أن يسعى جهده لتوطين نفسه عليه، لأنه … كالغيث أينما وقع نفع… وستضاعف حسناته أضعافا مضاعفة كما مر في آية الدفع بالإحسان

وقد جسد النبي  هذا الخلق الكريم في مواقف كثيرة، أذكر منها:

1 – صفحه عن إحدى أمهات المؤمنين رضي الله عنهن في أمر القصعة مراعاة لحال الغضب التي كانت عليها:

أخرج البخاري عن أنس  أن النبي . كان عند بعض نسائه، فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين مع خادم بقصعة فيها طعام، فضربت بيدها فكسرت القصعة، فضمها وجعل فيها الطعام، وقال «كلوا». وحبس الرسول والقصعة حتى فرغوا، فدفع القصعة الصحيحة وحبس المكسورة

2 – تركه للجاريتين تغنيان لعائشة رضي الله عنها دون أن يوقفهما:

أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل علي رسول الله  وعندي جاريتان تغنيان بغناء بعاث، فاضطجع على الفراش وحول وجهه. فدخل أبو بكر فانتهرني… فأقبل عليه رسول الله  فقال : دعهما. الحديث

3 – وكان  في خدمة أهله :

أخرج البخاري عن الأسود بن يزيد قال : سألت عائشة رضي الله عنها. ما كان النبي  يصنع في البيت؟ قالت : كان في مهنة أهله، فإذا سمع الأذان خرج.

4 – وكانت أزواجه أمهات المؤمنين رضي الله عنهن يراجعنه فلا ينكر ذلك.

ثالثا: تمتين آصرة النسب والقرابة :

إن النسل المعتبر شرعا هو النسل الناشئ عن اتصال الزوجين بواسطة عقدة النكاح السابقة الذكر.

والنسل عندما تصدق نسبته إلى أصله يكون بارا بالأصل، والأصل يكون رحيما بنسله. هذه فطرة الله التي فطرة الناس عليها.

وألحقت آصرة الرضاع بآصرة النسب فأنزلت المرضع منزلة الأم، وأُنزل الرضيع منزلة الأخ، قال تعالى : وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم، وأخواتكم من الرضاعة (النساء  23).

وقال  : «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»

ولقداسة هذه الآصرة –آصرة النسب والقرابة – حرمت الأصول على الفروع والفروع على الأصول محافظة على مقتضياتها.

قال الفخر الرازي في حكمة تحريم الزواج من المحرمات بالنسب : «وذكر العلماء أن السبب لهذا التحريم : أن الوطء إذلال وإهانة».

وقال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور «واعلم أن شريعة الإسلام قد نوهت ببيان القرابة القريبة فغرست لها في النفوس وقارا ينزه عن شوائب الاستعمال في اللهو والرفث، إذ الزواج وإن كان غرضا صالحا باعتبار غايته، إلا أنه لا يفارق الخاطر الأول الباعث عليه وهو خاطر اللهو والتلذذ.

فوقار الولادة أصلا وفرعا مانع من محاولة اللهو بالوالدة أو المولودة ولذلك اتفقت الشرائع على تحريمه ثم تلاحق ذلك في بنات الإخوة وبنات الأخوات. فمرجع تحريم هؤلاء المحرمات إلى قاعدة المروءة التابعة لكلية حفظ العرض»

ولما كان معظم القصد من النكاح الاستمتاع، كانت مخالطة الزوجين طبيعية، وذلك مناقض لما تقتضيه القرابة من الوقار لأحد الجانبين والاحتشام لكليهما، وذلك ظاهر في أصول الشخص وفروعه، وفي صنوان أصوله من عمة وخالة.

وأما محرمات المصاهرة فبعضها ألحق بالنسب مثل أم الزوجة… وبعضها لدفع ما يعرض من شقاق يفضي إلى قطع الرحم بين من قصدت الشريعة قوة الصلة فيه. ولهذا لا يجمع الزوج بين الأختين والمرأة وعمتها أو خالتها.

وأما المحرمات من الرضاع فلأن آصرة الرضاع تنزل منزلة النسب.

وهكذا حافظت الشريعة على حقوق النسل حتى لا تتعرض للإضاعة والفساد. ومن متممات تقوية آصرة القرابة أحكام النفقة على الأبناء والآباء. وعلى الأجداد والأحفاد. وجعل القرابة سببا من أسباب الميراث. والأمر ببر الوالدين، وصلة الأقارب وذوي الأرحام ….

وللمحافظة على هذه الآصرة أيضا منع الاستنساخ، وقد أجمعت الأديان والأعراف على منعه في النوع البشري، لكونه من أخطر المستجدات العلمية، وأسوء المنتجات الحضارية التي قد تؤدي إلى حدوث فساد عظيم في النظام الكوني عموما، وفي مؤسسة الأسرة خصوصا.

فهو حسب أحد الباحثين المعاصرين في حقل الاجتهاد المقاصدي المعاصر: مميت للمؤسسة الزوجية، وقاتل للمجتمع الإنساني لإحداثه لأسلوب غريب في عملية التناسل والإنجاب. ولمعارضته الصريحة لمعاني المودة والسكن، والرحمة، والتآلف، والإعمار والتنمية. وغير ذلك من المعاني والقيم التي تتربى لدى الناشئة بموجب البناء الأسري والتماسك الاجتماعي…

وهو موقع في إبادة مقصد حفظ النسب والعرض، ومفض إلى الفوضى الأسرية … ومضيع لقيمة الأمومة والبنوة والزوجية وسائر القرابة الدموية والعلاقة الصهرية…

ففي الاستنساخ تضيع حقوق وواجبات. وآثار، وتضييع لشخصية الإنسان ولعواطفه ولخصائص كيانه…

رابعا: الحرص على تقوية آصرة الصهر أو المصاهرة:

وهذه الآصرة ناشئة عن آصرتي النسب والنكاح قال تعالى: وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا.. (الفرقان 54).

وقد حرم منها ما حرم تحقيقا للحشمة والوقار والائتلاف

خاتمة :

وفي الأخير أستأذن الدكتور الطيب برغوث لأستعير منه مقالته البليغة الهادفة إلى الحفاظ على الأسس والمرتكزات التي تقوم عليها مؤسسة الأسرة والتي جاء فيها: أن الأسرة بحاجة إلى فقه سنني عميق يساعدها على بناء داخلي متين أولا، ويعينها على تحقيق الإشعاع الاجتماعي ثانيا. ويقيها من الهزات والانتكاسات التي تؤثر سلبا في أصالتها وفاعليتها، وجهدها البنائي على المستويين الذاتي والاجتماعي ثالثا.

وما لم يتحقق للأسرة هذا الوعي السنني، وما لم يتحول هذا الوعي السنني إلى ثقافة سننية مؤثرة في الأفكار، والسلوك، والعلاقات، فإنه من غير الممكن للأسرة أن تحقق أيا من أهدافها الذاتية والاجتماعية. وستظل عرضة للإصابات التي تضاعف آلامها ومتاعبها نفسيا واجتماعيا.

إن حجم الخلل الحادث في هذه المؤسسة ـ كما يرى أستاذنا الدكتور الشاهد البوشيخي كبير جدا. ومرده في كثير منه إلى هذه الحضارة العوراء البين عورها التي اقتحمت علينا بيوتنا ومجالسنا وعقولنا، وأسهمت إسهاما كبيرا في تغيير نفوسنا وأحوالنا وأوضاعنا… ولا نجاة إلا بالعودة الراشدة إلى كتاب ربنا الكريم، وسنة نبينا المصطفى ، والتوبة النصوح عسى الله أن يصلح من أحوالنا، ويهدينا سبل الرشاد ، ويخرجنا من الظلمات إلى النور.

د. زكرياء المرابط

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>