الخطبة الأولى:
عباد الله:
الإسلام منهج متكامل، تشريع شامل، يعم كل مجالات الحياة، فهو إيمان وعمل، عقيدة وشريعة، عبادة ومعاملة، عاطفة وعقل وتفكير، أخلاق وبناء وتعمير.
دينكم الإسلام كامل لا يحتاج إلى زيادة، قال تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا (المائدة: 3)
مِن هذا المنطلق وجب على المسلمين أن يَرْضَوا بهذا الدّين الَّذي رضِيَه الله لهم، ولا يحل لأحد أن يبدل أو أن يترك الدين الذي اختاره الله له.
ديننا الإسلامي الحنيف يتميز مصدرُه بالربانية، دين عام لجميع البشرية، دين شامل لجميع أمور الحياة الدنيوية والأخروية،
دين وسط بين الإفراط والتفريط وبين الغلو والجفاء.
يقول الله تعالى: وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا. (البقرة 143).
لم تتطاول أمة الإسلام إلى ما فوق مكانتها، ولم تدَّعِ لنفسها رتبة غير رتبتها، ولم تخرج عن قدرها لتقول عن نفسها كما قالت اليهود والنصارى: نحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُه، (المائدة 118)، بل أخذت بالوصف الوسط الذي اختاره الله لها، وجعلته سمة من أبرز سماتها.
وسطية أمة الإسلام تظهر جلية في آيات القرآن التي تنهى عن الإفراط والتفريط.
إن مبدأ الوسطية يشغل حيزاً كبيراً في آيات الكتاب الكريم، بلغ الاهتمام به أن أخذ مكاناً بارزاً في فاتحة الكتاب، التي يتلوها كل مؤمن في اليوم الواحد مرات ومرات، عندما نقرأ قول الله تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ، (الفاتحة : 6 –7)، نفهم من الآية أن الله سبحانه وصف الصراط المستقيم بأنه غيرُ صراط المغضوب عليهم، وهم أهل الجفاء في الدين، وغيرُ صراط الضالين، وهم أهل الرهبانية الغالون.
لقد دعا الاسلام إلى الوسطية في كل شيء: في الاعتقاد والتعبد، في السلوك والأخلاق والتشريع،
روى الإمام أحمد والدارمي وابن حبان رحمهم الله عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ : «خَطَّ لَنَا رَسُولُ الله َ خَطًّا ثُمَّ قَالَ: “هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ. ثُمَّ خَطَّ خُطُوطًا عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ، ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ سُبُلٌ مُتَفَرِّقَةٌ، عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ (الأنعام : 153)، ومعلوم أن الحديث يدل دلالة واضحة على معنى الوسطية والخيرية، التي بين طرفي التفريط والإفراط.
إن مما تميز به خير القرون، رضوان الله عليهم، تطبيقَ ما تعلموه، فقد كانوا يُقبلون على كتاب الله بقصد العمل، فيتعلمون من أجل أن يطبقوا ما تعلموه، فالعلم بلا عمل لا منفعة فيه، وقد كان الإمام مالك رحمه الله يكره العلم الذي ليس بعده عمل.
تلك أمة قد خلت لها ما كسبت… فكيف هو حالنا اليوم؟
إن وضع المسلمين اليوم لم يعد قادراً على أن يكون فاعلاً أو مؤثراً في حركة التاريخ، بل نكاد نجزم أنه أصبح في جل حالاته ساحة تجارب لهذا المعسكر أو ذاك… أصبح جسد الأمة مُشوّها من كثرة الجروح وعمقها وتنوعها،
فهذا الجرح الفلسطيني… وذاك الجرح العراقي، وبجانبه الجرح السوري، وهناك الجرح اليمني، ويليه الجرح الليبي دون نسيان الجرح السوداني و… وأغربها الجرح المصري.
لقد ديست الكرامة ودمرت الشهامة، نسفت المعالم، هدمت المساجد، نهبت الموارد، انتهكت الحرمات… قُتّل وذبِّح وشرِّد الأطفال والشيوخ والنساء…
فهل أدركت الأمة أن للعودة إلى الله باباً، وأن للتمكين في الأرض أسباباً…؟
تتوالى المحاولات، وتتعدد من أجل تشويه هذا الدين المخططات، يحصل هذا من المنتسبين لهذا الدين ومن غير المنتسبين،
إن الجهل بهذا الدين أوجد العديد من المسلمين بالاسم، مسلمون بالولادة، فرطوا في دينهم وتنكروا لأمتهم، وجعلوا من القيم الغربية قدوتهم ومن نظمها شريعتهم.
والأدهى من ذلك أن تجد من المنتسبين للإسلام من يسعى إلى تأصيل ضعفه وتنكره لدينه بالدعوة إلى مراجعة أصوله ومناقشة ثوابته.
إن الجهل بهذا الدين دفع بصنف آخر من أبناء المسلمين إلى الإفراط في التدين لإثبات الذات، وإظهار نوع من التميز ليكونوا محط أنظار الآخرين. وما أدركوا أنهم أساؤوا إلى الدين بقصد أو بغير قصد… إن كنت لا تدري فتلك مصيبة.
يقول الإمام الشاطبي رحمه الله : “وصف الله سبحانه وتعالى الدين بأنه يسر، ثم إنه سبحانه ما جعل علينا فيه من حرج، وأنه سبحانه يريد أن يخفف عنا، كل هذا يدل على أن الغلو في الدين غيرُ مطلوب، بل ليس هو من الدين، وأن التوسط هو سمة الدين ومنهاجه، والوسطية بين طرفين: تشددٍ وتساهل”، (الموافقات : 4 / 148).
دينكم أيها المسلمون، دين الحق والعدل، دين الأخلاق الفاضلة، والقيم الرفيعة، والأخوة والمحبة.
هذا الدين العظيم حاولوا تشويهه إعلاميا، وتثقيفيا، وتربويا، شوهه أعداؤه كما ساهم في تشويهه أبناؤه، نعتوه بدين القتل والتطرف، والإرهاب والعنف، جعلوا منه دين الجهل والضعف، وكلما حدثت حادثة في منطقة من مناطق العالم توجهت أصابع الاتهام للإسلام، وكل عملية تخريب أو تدمير، أو اعتداء مُنفذها “مسلم” حتى يثبت العكس، وعندما يثبت العكس يبقى الاتهام على حاله.
فما هو واجبك أيها المسلم نحو دينك، وهل تحمل جزءا من هم إسلامك؟
الخطبة الثانية:
عباد الله: الدين هو الطريقةُ والمنهاج الذي يجب أن تسير عليه وبه حياة العبد علما وفكرا وعملا،
اعلموا – يا رعاكم الله – أن الإسلام ليس مجردَ شعائر تعبدية، لكنه دين شامل يعم كل مناحي الحياة، وفى طياته حل لكل المشكلات،
يضع الاسلام قواعد نظامه الاجتماعي الذي يحقق إقامة الأسر والبيوت، على أساس متين من الترابط والحب والتعاون، ويقدم الحلول الجذرية للمشكلات الاجتماعية.
وللإسلام نظامه السياسي الذي يضمن سلامة المجتمع ويحفظ كرامته، ويحقق حريات وحقوق الأفراد.
وللإسلام قواعد نظامه الاقتصادي التي تمنع الغش والاحتكار والاستغلال، ويعمل على تنمية الموارد وتنظيم الاستفادة المثلى منها، ويضمن الكفاية والعيش الكريم لكل من يعيش تحت لوائه.
وللإسلام نظامه الأمني والقضائي الذي يضمن حقوق الناس وأمن المجتمعات في عدالة مطلقة لا تميز بين الغني والفقير ولا بين الشريف والضيع.
ويتميز دين الاسلام بنظام أخلاقي يعتمد تربية الوازع الداخلي في النفس، ويجعل المراقبة الإلهية أساسا ومنطلقا للأخلاق، حتى إن المخطئ ليذهب بنفسه إلى القاضي ويصر على تطهير نفسه من الخطأ الذي وقع فيه.
فيا من تحمل هم الدين، اعلم أن الإسلام علم وعمل، وسطية واعتدال، يا من سمعت قول ربك جل في علاه: وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون، اعلم أن العبادة عقيدة وشعائر وقيم ومعاملات، اعلم أن العبادة تدور مع الإنسان في كل مواقعه، وفي كل أحواله وكل أوقاته، لقد أمرك الاسلام أن تسهم في إقامة الدين، وأن تدور مع الاسلام حيث دار.
بعد تطبيق القواسم المشتركة التي تتمثل في تحقيق الإخلاص والإيمان، وإقامة الشعائر التعبدية بكل إتقان،
يخاطب الاسلام أولي الأمر، أنتم الاقوياء: ليكن همكم الأول إحقاقَ الحق، وإبطالَ الباطل، وإنصافَ الضعيف، ونصرة المظلوم.
ويخاطب الاسلام الأغنياء: اجعلوا معشر الأغنياء همكم الأول إنفاقَ المال في وجوه الخير.
ويحدد الدين للعلماء همهم الأساس في قوله تعالى: الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله، (الأحزاب).
ويخاطب الاسلام المرأة ليحدد لها همها الأول في حسن رعاية الزوج، وتربية الأولاد مساهمة منها في بناء المجتمع.
ثم إن من العباد من جعل الإسلام همهم الأول الدفاعَ عن الأوطان أو التعمير والبنيان، أو استصلاح الأراضي، وإقامة السدود، أو استخراج الثروات، وتطوير الصناعات…
رغم ما يصيب النفس من آلام وما يَحُل بها من حزن واكتئاب، إلا أن المسلم يحسن الظن بالله ويرجِّح كفَّة التفاؤل، ذلك أن التفاؤل يُولّد الأمل والأمل يولد العمل.
فاتقوا الله عباد الله في السر والعلن، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، واعلموا أن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل، فأعدوا لغدكم ما ترجون أن تنالوا من ربكم، واعلموا أن ربكم يقول: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (الزلزلة 7 – 8).
لقد أوصانا الإسلام أن نصل من قطعنا، ونعفو عن من ظلمنا، ونسلمَ على من هجرنا.
أكرموا الفقراء والمساكين، ووسعوا على أبنائكم وأهليكم، وليكن ذلك من غير تبذير ولا إسراف ولا تقتير ولا إسفاف.
لا تنسوا إخوانكم المنكوبين والمقهورين أطفالاً ونساء وشيوخا، اُدعوا لإخوانكم الذين يقتلون ظلماً، اُدعوا للمجاهدين في سبيل الله،
نسأل الله أن يزيل المحنة، وأن ينفس الكربة، وأن يرفع البأس، وأن يذهب الشدة، إنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العلمين.
د. الوزاني برداعي
—————
* خطيب مسجد الفتح بمنفلوري 1 بفاس