وكان الأصل الأصيل في تشريع أحكام هذا المجال، هو إحكام آصرة النكاح، وآصرة النسب والقرابة، وآصرة المصاهرة، وإحكام طرق انحلالها إذا انحلت هذه الأواصر الثلاث.
ثم فصل رحمه الله تعالى هذه الأواصر الثلاث. فذكر أن بقاء النوع يتوقف على آصرة النكاح، وهي قائمة على أساس الحب والمودة والسكن والتعاون والتآزر والتراحم. وغيرها من المعاني التي لا حصر لها. وهي مستمدة من الآية الكريمة هو الذي خلقكم من نفس واحدة . وجعل منها زوجها ليسكن إليها. فلما تغشاها حملت حملا خفيفا فمرت به . فلما أثقلت دعوا الله ربهما لئن آتيتنا صالحا لنكونن من الشاكرين الأعراف 189.
وإن اعتناء الشريعة بأمر النكاح من أسمى مقاصدها. لكونه مؤسسا لنظام الأسرة –العائلة– وقد قصرت الزواج على صورة واحدة هي المشروعة والمعتبرة دون سائر الصور المذكورة في حديث عائشة رضي الله عنها.
وحقيقة هذه الصورة اختصاص الرجل بامرأة أو نساء في حدود أربع نسوة هن قرارات نسله، وبها فقط يثبت انتساب النسل إليه.
بل إن الشريعة زادت عقدة النكاح تشريفا وحرمة في نفوس الأزواج وفي نظر الناس بحيث لم تبق النكاح معدودا في عداد الشهوات. قال تعالى : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة… (الروم 21).
بل أضحى صلة وميثاقا وتعاقدا مبنيا على حسن القصد، وسلامة الطوية، ودوام العشرة، واستمرار الألفة والمحبة.
ويرى رحمه الله أيضا أن من مقاصد الزواج الرئيسة مراعاة أصلين اثنين:
الأصل الأول : مخالفته لصور اقتران الرجل بالمرأة. وقد شرحت بتفصيل في حديث عائشة رضي الله عنها السابق ويحصل ذلك بثلاثة أمور.
أ- بِوَلي يتولى العقد ليعلم أن المرأة لم تكن تركن إلى الرجل وحدها دون علم ذويها، لأن ذلك أول الفروق بين الزواج وبين السفاح والزنا والمخادنة والاستبضاع…، ولأن الناس في عرفهم لا يرضون أن تتولاه المرأة بنفسها دون وليها.
ولأن تولي الولي ذلك مؤذن بصيرورته عونا لها، وحارسا لجانبها، وبكون عصبته وعشيرته يكونون أيضا عونا له في الذب عنه وعنها.
ب- بمهر يبذل للزوجة باعتباره عطية محضة : وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا (النساء 20).
وبذلك فارق نكاح الشغار لكونه خاليا من المهر.
ج- الإشهار، لأن الإسرار به يقربه من الزنا، ويحول بين الناس وبين الذب عنه. وبالإشهار يتحقق معنيان أصيلان هما:
أولا: حث الزوج على مزيد الحصانة للمرأة ليعلم اختصاصه بها.
ثانيا: بعث الناس على احترامها لكونها صارت زوجته.
الأصل الثاني: قداسة عقدة النكاح. وهذا باعث قوي على التكامل والاقتران وحسن المعاشرة والمودة والألفة. وجعل الزوجية من أسباب الإرث تقوية لهذه الآصرة . وجعل الإضرار ببعض هذه المقتضيات مفضيا إلى فسخ هذا الارتباط المقدس بالطلاق إذا استحالت العشرة، وانتفت المودة والرحمة نزوعا إلى ارتكاب أخف الضررين عند تعسر استقامة المعاشرة، قال تعالى: الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله … (البقرة 299).
إن الزواج ليس علاقة بين ذكر وأنثى، أو علاقة مصاهرة بين عائلة وأخرى، وإنما هو إما أن يكون مدخلا لقيام حضارة مؤسسة على تقوى من الله ورضوان تحكمها مقاصد وقواعد وضوابط في طريق السير إلى الله عز وجل. وإما أن يكون مدخلا لقيام حضارة موحشة مؤسسة على شفا جرف هار منذرة بخراب البلاد والعباد، والبنيان والعمران.
قال تعالى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو. فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى طه 123-124.
ومن مقاصد الزواج في الشريعة أن تتحقق الحياة السعيدة الهادئة المطمئنة الهادفة إلى مرضاة الله عز وجل، القائمة على قدر كبير من الصلاح والإصلاح أصولا وفروعا. وعباد الرحمان… والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما (الفرقان 63-74).
إن الدعاء سالف الذكر كما ذكر الدكتور الطيب برغوث، يرسم الأفق الحضاري الإنساني للزواج فعلا، لأن وعي عباد الرحمان وفقههم العميق في سنن الله ارتقى بهم إلى إدراك رسالتهم في الحياة من ناحية، وهي الإسهام المتقدم في بناء وقيادة ركب الحضارة الإنسانية على طريق الخيرية والعبودية والخلافة الراشدة في الأرض. كما توحي بذلك كلمة إمامة المتقين. كما أدركوا من ناحية أخرى بأن المدخل الأساس لتحقيق هذا الطموح العظيم هو الزواج كما هو واضح في المقطع الأول من الآية الكريمة .
كما أدركوا أيضا أن عمق السعادة فيه تكمن في السكينة بمعناها الواسع : السكينة النفسية والروحية والجسمية، والسكينة في العلائق، ولذلك ضمنوها دعاءهم «قرة أعين».
وهذه السكينة مع المودة والرحمة تشكل المقصد الأساس من الزواج. وهو ما نبهت عليه آية السكينة والمودة والرحمة : ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون الروم 21.
والإنسان باعتباره ذكرا أو أنثى مفتقر بعضه إلى بعض. ولا يستكمل مقومات حياته إلا به. فبه يتحقق التكامل والتوازن. وهو ما يشير إليه الحديث الصحيح «إذا تزوج العبد فقد استكمل نصف الدين. فليتق الله في النصف الباقي»
يتبع
د. زكرياء المرابط